وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى
الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ.
أَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ يَقُولُونَ: إِنَّ فَائِدَةَ اتِّبَاعِهِ إِنْقَاذُ الْأُمَّةِ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَضَرَرِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ كَأَنْ يَخْتَلِفَ أُولُو الْأَمْرِ فِي حُكْمِ بَعْضِ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ، وَالْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ مَعَ وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِهِمْ.
وَحَصْرُ الرَّازِيِّ الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الصَّحَابَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَهِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الرَّازِيُّ يَعْنِي بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ فَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ الْآخَرِ فَقَدْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ قَوْلَ ابْنِ كَيْسَانَ: إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ قَوْلًا إِلَّا وَتَجِدُ لِمَنْ قَبْلَهُ قَوْلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا مُفَصَّلًا حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ يَضِيعُ وَلَا يَفْهَمُ الْجُمْهُورُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَهَذَا الرَّازِيُّ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ فِي الْمَسَائِلِ لَمْ يَحُلَّ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ، إِذْ عَبَّرَ تَارَةً بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَتَارَةً بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ أَوِ اخْتَارَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ يَكُونُ الرَّازِيُّ قَدْ حَقَّقَ مَسْأَلَةَ الْإِجْمَاعِ أَفْضَلَ التَّحْقِيقِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَالَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ: أَحَدُهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ " إِلَخْ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْجُنْدِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَدُهَمَاءَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ بِارْتِيَاحٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْعَارِفُونَ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ وَاتِّفَاقَهُمْ مَيْسُورٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ بِمَعْنَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute