إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِرِمَّتِهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَتَحَقَّقُ بِإِجْمَاعِ
الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفِقْهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَعْرِفُوا، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا وَأَنْ تَعْلَمَ الْأُمَّةُ بِإِجْمَاعِهِمْ وَتَثِقَ بِهِمْ.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أُصُولَ الدِّينِ وَشَرِيعَتَهُ وَالْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَهِيَ:
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى.
الْأَصْلُ الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ طَاعَةُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعُ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالرُّؤَسَاءِ فِي الْجَيْشِ، وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا رُؤَسَاءُ الْعُمَّالِ، وَالْأَحْزَابِ، وَمُدِيرُو الْجَرَائِدِ الْمُحْتَرَمَةِ وَرُؤَسَاءُ تَحْرِيرِهَا، وَطَاعَتُهُمْ حِينَئِذٍ هِيَ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ.
الْأَصْلُ الرَّابِعُ: عَرْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.
فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَصَادِرُ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ جَمَاعَةٍ يَقُومُونَ بِعَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُتَنَازَعُ فِيهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَلْ يَكُونُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ أَوْ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ؟ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ الْحُكْمُ بِمَا يُقَرِّرُهُ أُولُو الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ جَمَاعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ:
الْأُولَى: جَمَاعَةُ الْمُبَيِّنِينَ لِلْأَحْكَامِ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهَيْئَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ.
وَالثَّانِيَةُ: جَمَاعَةُ الْحَاكِمِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْهَيْئَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ.
وَالثَّالِثَةُ: جَمَاعَةُ الْمُحَكِّمِينَ فِي التَّنَازُعِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةً مِنَ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى.
وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ قَبُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْخُضُوعُ لَهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِذَلِكَ خَاضِعَةً خَانِعَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا خَارِجَةً مِنْ دَائِرَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي شِعَارُهُ إِنَّمَا الشَّارِعُ هُوَ اللهُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (١٢: ٤٠) ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى أَوْ حُكْمِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِذْنِهِ، أَوْ حُكْمِ نَفْسِهَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ لَهَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّذِينَ وَثِقَتْ بِهِمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ خَاضِعَةً
لِوِجْدَانِهَا لَا تَشْعُرُ بِاسْتِبْدَادِ أَحَدٍ فِيهَا، وَلَا بِاسْتِذْلَالِهِ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهَا، بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ لِحُكُومَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَّةٌ: أَنَّهَا أَعَزُّ النَّاسِ نُفُوسًا وَأَرْفَعُهُمْ رُؤُوسًا، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلَا بُدَّ لَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَرِّرَ مَسْأَلَةَ التَّنَازُعِ مِنْ فَتْحِ بَابِ الْبَحْثِ فِي اجْتِمَاعِ أُولِي الْأَمْرِ