للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا، لَا عِلْمَ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُحْدَثَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفِقْهِ غَالِبًا.

وَأَمَّا اسْتَشَارَتُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ فَمِثَالُهَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ

وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.

فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعْوَتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تَقُدْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ أَيْ: مُسَافِرٌ، وَالظَّهْرُ: ظَهْرُ الرَّاحِلَةِ، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ ـ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ ـ أَيِ الْوَبَاءِ ـ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ انْصَرَفَ اهـ.

أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَكَّمَ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ أَنْفَذَهُ، وَهَذَا نَحْوُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونُوا مُحِيطِينَ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ قَضَاءٍ وَعَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِ.

كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمُ الْعَادِلُونَ يَعْرِفُونَ رُءُوسَ النَّاسِ، وَأَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالدِّينِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ فَيَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا رَقِيبَةً عَلَى أَمِيرِهَا يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَضْعَفُ رِجَالِهَا وَنِسَائِهَا فِيمَا يُخْطِئُ فِيهِ، كَمَا رَاجَعَتِ الْمَرْأَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>