للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ نَغَمٍ وَتَحْسِينٍ، ثُمَّ لِيَتْلُ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ كَسُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْقَمَرِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ - مَثَلًا - ثُمَّ حَكِّمْ ذَوْقَكَ وَوِجْدَانَكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا فِي أَنْفُسِهَا، ثُمَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ فِي نَفْسِكَ بَعْدَ اخْتِلَافِ وَقْعِهِ فِي سَمْعِكَ.

بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ.

وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ.

إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ:

(الْوَجْهُ الثَّانِي) : بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ

"

<<  <  ج: ص:  >  >>