للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " وَسَبَبُ هَذَا جَهْلُهُمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى نَفْسَهَا، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ عَلَى تَرْكِ النَّاسِ لِمُدَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، وَاسْتِظْهَارِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَاقْتِصَارِ مَدَارِسِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا وُضِعَ فِي فُنُونِهَا فَصَاحَةً وَبَيَانًا، وَأَشَدُّهَا عُجْمَةً وَتَعْقِيدًا، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي اقْتَصَرَ مُؤَلِّفُوهَا عَلَى

سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.

فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.

فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.

الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ

مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ (وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>