للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِالضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ أَنْ عَصَوُا الرَّسُولَ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ.

وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَقْرُونَةِ بِحُكْمِهَا، وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ صَدَّ عَنْهَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَاعْتِزَازِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِقَاءِ أُمَّتِهِمْ، وَفِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، التَّثْبِيتُ: التَّقْوِيَةُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ وَإِتْيَانُ الْأُمُورِ الْمَوْعُوظُ بِهَا فِي الدِّينِ يَزِيدُ الْعَامِلَ قُوَّةً وَثَبَاتًا ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ الْمُبْهَمُ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، وَهِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ وَالْمَلِكَاتِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ، وَتُبَدِّدُ الْمَخَاوِفَ وَالْأَوْهَامَ مِنْ نَفْسِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْبِرِّ آيَةٌ مِنْ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلْمُهُ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ إِلَّا نَاقِصًا، وَكُلَّمَا اعْتَنَّ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَذْلِ تَحَدَّاهُ فِي نَفْسِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ، كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، أَوْ نُقْصَانِ مَالِهِ عَنْ مَالِ بَعْضِ الْأَقْرَانِ، أَوْ تَعْلِيلِ النَّفْسِ بِادِّخَارِ مَا احْتِيجَ إِلَى بَذْلِهِ الْآنَ لِيُوضَعَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ اعْتَادَ الْبَذْلَ صَارَ السَّخَاءُ خُلُقًا لَهُ،

لَا يُثْنِيهِ وَسْوَاسٌ وَلَا خَوْفٌ، وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ مَنَافِعِهِ، وَوُضِعَ الْمَالُ فِي خَيْرِ مَوَاضِعِهِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يَتَضَمَّنُ الذِّكْرَى، وَتَصَوُّرَ احْتِرَامِ أَمْرِ اللهِ، وَالشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَإِمْرَارَ هَذِهِ الذِّكْرَى عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُثْبِتُهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْمَرْءُ بِالشَّرِيعَةِ عَمَلًا صَحِيحًا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ.

أَقُولُ: وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي التَّثْبِيتِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:

١ - أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى مِثْلِهَا.

٢ - أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ.

٣ - أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ أَوَّلًا، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ ثَابِتًا بَاقِيًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي " أَنَّ " وَ " أَوْ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ نُونِ " أَنْ " وَضَمِّ وَاوِ

"

<<  <  ج: ص:  >  >>