للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي الْوُقُوفِ عِنْدَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ فَعِصْيَانَ قَائِدِ عَسْكَرِهِمْ وَرَسُولِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِلنِّضَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لِخَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ سَبَبُهُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا تُسْنَدُ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَوَادِّهَا وَالْوَاضِعُ لِسُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِيهَا، وَيُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْهَا كُلُّ مَالَهُ فِيهِ كَسْبٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَوِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ مَضَى بِهَذَا عُرْفُ النَّاسِ وَأَيَّدَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦: ١٦٠) ، فَلِمَاذَا جَعَلَ هُنَا إِصَابَةَ الْحَسَنَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا وَإِصَابَةَ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؟

فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ حَقٌّ، وَمَا فِي الْآيَةِ حَقٌّ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَالْمَقَامُ الَّذِي سِيقَتِ الْآيَةُ لَهُ هُوَ بَيَانُ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الشُّؤْمِ وَالتَّطَيُّرِ وَإِبْطَالُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ لَا يُصِيبُهُمْ بِشُؤْمِ أَحَدٍ يَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ وَيَتَطَيَّرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَزَالُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِينَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ وَقَدْ أَبْطَلَهَا دِينُ الْفِطْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ

سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧: ١٣١) ، فَقَدْ جَعَلَ التَّطَيُّرَ مِنَ الْجَهْلِ وَفَقْدِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ.

ثَانِيَهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى شُؤْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا كَسْبٌ ; لِأَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ تَقْصِيرِهِ وَخُرُوجِهِ بِجَهْلِهِ أَوْ هَوَاهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْتِمَاسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَارِّ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَرْجِيحِ الْخَيْرِ لَهَا عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ، وَكَوْنِ كُلِّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَاهُ نَافِعَةً لَهُ إِذَا أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَهَا، وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَيِّئَةٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ يَقَعُ فِي الضَّرَرِ غَالِبًا بِسُوءِ الِاسْتِعْمَالِ وَطَلَبِ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ لَوْلَا جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، كَالْإِفْرَاطِ فِي اللَّذَّاتِ وَالتَّعَبِ، تَنْفِرُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ فَيَحْتَالُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَيَحْمِلُهَا مَا لَا تَحْمِلُهُ بِطَبْعِهَا لَوْلَا ظُلْمُهُ لَهَا، كَاسْتِعْمَالِهِ الْأَدْوِيَةِ لِإِثَارَةِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالْوِقَاعِ وَعَدَمِ وُقُوفِهِ فِيهِمَا عِنْدَ حَدِّ الدَّاعِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، كَأَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا جَاعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ وَالتَّوَابِلِ الْمُحَرِّضَةِ، فَمَصَائِبُ الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمِهِ وَكَسْبِهِ [رَاجِعْ ص ٦٥ و١٥٥ - ١٥٨ و٢٨١ ج٤] .

<<  <  ج: ص:  >  >>