للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لُبُّ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهَا وَرَبَّانَا بِهَا هُوَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، كَسُنَنِهِ فِي فِطْرَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (٦٧: ٣) ، كُلُّهَا مَصَادِرُ لِلْحَسَنَاتِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سَيِّئٌ بِطَبْعِهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَحْكَمَ الْعِلْمَ وَأَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ مُهْتَدِيًا بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - كَانَ مَغْمُورًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِذَا قَصَّرَ فِي الْعِلْمِ وَأَسَاءَ الِاخْتِيَارَ فِي اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ وَحَاجَةُ الطَّبِيعَةِ وَقَعَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوؤُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاتَبَةِ كُلَّمَا أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ، لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَيَزْدَادَ عِلْمًا وَكَمَالًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَعِلْمِ النَّفْسِ فِيهَا شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ، وَتَثْبِيتٌ فِي مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَهِيَ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلْقًا لِمَوَارِدِهَا وَأَسْبَابِهَا وَتَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بِجَعْلِهَا عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَحْسَنَ وَأَصَابَ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِفَضْلِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ وَأَسَاءَ كَانَتْ لَهُ السَّيِّئَةُ بِخُرُوجِهِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَتَقْصِيرِهِ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ دَخْلٌ فِيمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ لَا لِلتَّصَرُّفِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَحْوِيلِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ تَبْدِيلِهَا، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (٣٥: ٤٣) ، فَزَعْمُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَمَا تَخَيَّلُوا مِنْ شُؤْمِهِ، لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا بَيَّنَ مِنْ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي النَّقْلِ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ جَامِعَةٌ لِأَسْبَابِ النِّعَمِ فَهِيَ مِنْ يُمْنِهِ لَا مَنْ خَلْقِهِ.

وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِتَأْيِيدِكَ بِآيَاتِهِ، وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا أَنْذَرْتَ بِهِ الْمُعْرِضِينَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ شَهِيدًا بِأَنَّكَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ وَلَا جَبَّارًا لَهُمْ، وَلَا مُغَيِّرًا لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الشَّهَادَةُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُنْكَرَةَ.

تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هُنَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى هُنَا كَانَ يَقُولُ هَذَا يَهُودُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَ السِّيَاقِ فِيهِمْ، وَفِي مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ، لَا فِي ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ خَاصَّةً كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَلَهُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَقَالٌ فِي تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ سُئِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>