للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا بَاطِنٌ، وَأَمَّا إِذَا أَسَأْنَا التَّصَرُّفَ فِي أَعْمَالِنَا، وَفَرَّطْنَا فِي النَّظَرِ فِي شُئُونِنَا، وَأَهْمَلْنَا الْعَقْلَ وَانْصَرَفْنَا عَنْ سِرِّ مَا أَوْدَعَ اللهُ فِي شَرَائِعِهِ، وَغَفَلْنَا عَنْ فَهْمِهِ، فَاتَّبَعْنَا الْهَوَى فِي أَفْعَالِنَا، وَجَلَبْنَا بِذَلِكَ الشَّرَّ عَلَى أَنْفُسِنَا، كَانَ مَا أَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ سُوءِ اخْتِيَارِنَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَيْنَا جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطْنَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنَّ نَنْسُبَ ذَلِكَ إِلَى شُؤْمِ أَحَدٍ أَوْ تَصَرُّفِهِ، وَنِسْبَةُ الشَّرِّ وَالسَّيِّئَاتِ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، فَأَمَّا الْمَوَاهِبُ الْإِلَهِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَاتِ وَإِنَّمَا يُبْطِلُ أَثَرَهَا إِهْمَالُهَا، أَوْ سُوءُ اسْتِعْمَالِهَا، وَعَنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُسَاقُ الشَّرُّ إِلَى أَهْلِهِ وَهُمَا مِنْ كَسْبِ الْمُهْمِلِينَ وَسَيِّئِ الِاسْتِعْمَالِ، فَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مَا أُصِيبُوا بِهِ وَهُمُ الْكَاسِبُونَ لِسَبَبِهِ، فَقَدْ حَالُوا بِكَسْبِهِمْ بَيْنَ الْقُوَى الَّتِي غَرَزَهَا اللهُ فِيهِمْ لِتُؤَدِّيَ إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، وَبَيْنَمَا حَقُّهَا أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعُدُوا بِهَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ فِيهَا، وَصَارُوا بِهَا إِلَى ضِدِّ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا الْكَسْبِ الْجَدِيدِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى كَاسِبِهِ.

" وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَقَامَيْنِ: أَنَّهُ إِذَا نُظِرَ إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَمْنَحُ وَيَسْلُبُ وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ فَذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ سِوَاهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ لَا يَكَادُ يَفْقَهُ كَلَامًا ; لِأَنَّ نِسْبَةَ الْخَيْرِ إِلَى اللهِ وَنِسْبَةَ الشَّرِّ إِلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَيَقْدِرُ عَلَى سَوْقِهِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّرِّ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبٌ مِنَ الْخَبَلِ فِي الْعَقْلِ.

" وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ الَّتِي دَعَا اللهُ الْخَلْقَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا لِيَكُونُوا سُعَدَاءَ وَلَا يَكُونُوا أَشْقِيَاءَ، فَمَنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا وَهَبَ اللهُ فَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ الَّتِي مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا آتَاهُ، وَمَنْ فَرَّطَ أَوْ أَفْرَطَ فِي اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ

الَّذِي أَسَاءَ إِلَيْهَا بِسُوءِ اسْتِعْمَالِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَلَيْسَ بِسَائِغٍ لَهُ أَنْ يَنْسُبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْ سِوَاهُ لَمْ يَغْلِبْهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْهَرْهُ عَلَى إِتْيَانِ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ.

" فَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَحَمِدُوا اللهَ وَحَمَدُوكَ - يَا مُحَمَّدُ - عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَانِحُهُمْ مَا وَصَلُوا بِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَنْتَ دَاعِيهِمْ لِالْتِزَامِ شَرَائِعِ اللهِ وَفِي الْتِزَامِهَا سَعَادَتُهُمْ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ أَوْ خُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ اللهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلتَّقْصِيرِ أَوِ الْعِصْيَانِ فَيُؤَدِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِيَخْرُجُوا مِنْ نِقْمَتِهِ إِلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّمَا يُنْعِمُ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ وَيَسْلُبُ نِعْمَتَهُ عَمَّنْ أَسَاءَهُ.

"

<<  <  ج: ص:  >  >>