للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، وَأَنَّ عِصْيَانَهُ مِنْ مَجَالِبِ النِّقَمِ، وَطَاعَةُ اللهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ، وَصَرْفِ مَا وَهَبَ مِنَ الْوَسَائِلِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ ".

" وَلِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَظَائِرٌ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، فَإِنَّكَ لَوْ كُنْتَ فَقِيرًا وَأَعْطَاكَ وَالِدُكَ مَثَلًا رَأْسَ مَالٍ فَاشْتَغَلْتَ بِتَنْمِيَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ مَعَ حُسْنٍ فِي التَّصَرُّفِ وَقَصْدٍ فِي الْإِنْفَاقِ وَصِرْتَ بِذَلِكَ غَنِيًّا، فَإِنَّهُ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ غِنَاكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَاكَ رَأْسَ الْمَالِ وَأَعَدَّكَ بِهِ لِلْغِنَى، أَمَّا لَوْ أَسَأْتَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَأَخَذْتَ تُنْفِقُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ، وَاطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ فَاسْتَرَدَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَحَرَمَكَ نِعْمَةَ التَّمَتُّعِ بِهِ، فَلَا رَيْبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَفْسُكَ وَسُوءُ اخْتِيَارِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُعْطِيَ وَالْمُسْتَرِدَّ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَالِدُكَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ يُنْسَبُ إِلَى مَصْدَرِهِ الْأَوَّلِ إِذَا انْتَهَى عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، وَيُنْسَبُ إِلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ إِذَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ مَا يُحِبُّ ; لِأَنَّ تَحْوِيلَ الْوَسَائِلِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ حَوَّلَهَا وَعَدَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ.

" وَهُنَاكَ لِلْآيَةِ مَعْنًى أَدَقُّ، يَشْعُرُ بِهِ ذُو وِجْدَانٍ أَرَقَّ، مِمَّا يَجِدُهُ الْغَافِلُونَ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنَّ مَا وَجَدْتَ مِنْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ، وَمَا تَمَتَّعْتَ بِهِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ،

فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ وَاخْتَارَهُ لَكَ، وَمَا خُلِقْتَ إِلَّا لِتَكُونَ سَعِيدًا بِمَا وَهَبَكَ، أَمَّا مَا تَجِدُهُ مِنْ حُزْنٍ وَكَدَرٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَوْ نَفَذَتْ بَصِيرَتُكَ إِلَى سِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا سِيقَ إِلَيْكَ لَفَرَحْتَ بِالْمُحْزِنِ فَرَحَكَ بِالسَّارِّ، وَإِنَّمَا أَنْتَ بِقِصَرِ نَظَرِكَ تُحِبُّ أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَخْتَرْهُ لَكَ الْعَلِيمُ بِكَ الْمُدَبِّرُ لِشَأْنِكَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْعَالَمِ نَظْرَةَ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَأَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَتِ الْمَصَائِبُ لَدَيْكَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَابِلِ الْحِرِّيفَةِ يُضِيفُهَا طَاهِيكَ عَلَى مَا يُهَيِّئُ لَكَ مِنْ طَعَامٍ لِتَزِيدَهُ حُسْنَ طَعْمٍ وَتَشْحَذَ مِنْكَ الِاشْتِهَاءَ لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّةِ، وَاسْتَحْسَنْتَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ، وَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنَ الْتِزَامِ حُدُودِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّحَوُّلِ عَنْ مَصَابِّ نِقَمِهِ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي النِّقْمَةِ إِنَّمَا هِيَ لَذَّةُ التَّأْدِيبِ، وَمَتَاعُ التَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ وَهُوَ مَتَاعٌ تَجْتَنِي فَائِدَتَهُ، وَلَا تَلْتَزِمُ طَرِيقَتَهُ، فَكَمَا يَسُرُّ طَالِبُ الْأَدَبِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَأَنْ يَلْتَذَّ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَعَبٍ فِيهِ، يَسُرُّهُ كَذَلِكَ أَنْ يَرْتَقِيَ فَوْقَ ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى مُسْتَوًى يَجِدُ نَفْسَهُ فِيهِ مُتَمَتِّعًا بِمَا حَصَلَ، بَالِغًا مَا أَمَلَ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ، انْتَهَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>