للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَتَى بِالْمَوْزُونِ قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانًا عَجِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجَدُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَمَّلْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَا جَمِيعَ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي حُسْنِ النُّظُمِ، وَبَدِيعِ التَّأْلِيفِ وَالرَّصْفِ لَا تَفَاوُتَ وَلَا انْحِطَاطَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا، وَلَا إِسْفَالَ فِيهِ إِلَى الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ قَدْ تَأَمَّلْنَا مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ وُجُوهُ الْخِطَابِ مِنَ الْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ فَرَأَيْنَا الْإِعْجَازَ فِي جَمِيعِهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَفَاوَتُ كَلَامُ النَّاسِ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَرَأَيْنَاهُ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَفَاوِتٍ، بَلْ هُوَ عَلَى نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَغَايَةِ الْبَرَاعَةِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَّا فِيهِ التَّفَاوُتَ الْكَثِيرَ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَعِنْدَ تَبَايُنِ الْوُجُوهِ وَاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَضَمَّنُ.

" وَمَعْنًى رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَيِّنًا فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَسِمُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ عِنْدَ النَّظْمِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّعَرَاءِ قَدْ وُصِفَ بِالنَّقْصِ عِنْدَ التَّنَقُّلِ مِنْ مَعْنًى إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْصِيرِ الْبُحْتُرِيِّ - مَعَ جَوْدَةِ نَظْمِهِ، وَحُسْنِ وَصْفِهِ - فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّسِيبِ إِلَى الْمَدِيحِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُهُ وَلَا يَأْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ خُرُوجٌ يُرْتَضَى، وَتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ سَبِيلُ غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَالتَّحَوُّلِ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ.

" وَنَحْنُ نُفَصِّلُ بَعْدَ هَذَا وَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، وَالطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَجْعَلُ الْمُخْتَلِفَ كَالْمُؤْتَلِفِ، وَالْمُتَبَايِنَ كَالْمُتَنَاسِبِ، وَالْمُتَنَافِرَ فِي الْأَفْرَادِ، إِلَى أَحَدِ الْآحَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ تَتَبَيَّنُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْعَادَةِ، وَيَتَجَاوَزُ الْعُرْفَ.

(وَذَكَرَ هُنَا مَعْنًى خَامِسًا: هُوَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَقَعَ مَوْقِعًا فِي الْبَلَاغَةِ يَخْرُجُ عَنْ عَادَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ الْجِنِّ

مَا كَانَتْ تَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ وَتَحْكِيهِ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الْجِنِّ وَزَجَلِهَا وَعَزِيفِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَفْيِ الْخِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ ثُمَّ قَالَ) :

" وَمَعْنًى سَادِسٌ: وَهُوَ كُلُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ الْبَسْطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّصْرِيحِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّحْقِيقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ ضَمَّنَّا بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدُ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُ الْمُقْدِمَاتِ دُونَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: يَعْنِي أَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>