للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمَعْنًى سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُتَضَمَّنُ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَالِاحْتِيَاجَاتِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمُوَافَقَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا فِي اللُّطْفِ وَالْبَرَاعَةِ، مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْبَشَرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخَيُّرَ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَالْأَسْبَابِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ - أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ مِنْ تَخَيُّرِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ، وَأَسْبَابٍ مُؤَسَّسَةٍ مُسْتَحْدَثَةٍ، فَلَوْ أُبْرِعَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْبَارِعِ كَانَ أَلْطَفَ وَأَعْجَبَ مِنْ أَنْ يُوجَدَ اللَّفْظُ الْبَارِعُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَدَاوَلِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ الْمُتَصَوَّرِ، ثُمَّ إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَأْيِيدَ مَا يُبْتَدَأُ تَأْسِيسُهُ، وَيُرَادُ تَحْقِيقُهُ، بِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْبَرَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الْأَلْفَاظُ وَفْقَ الْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي وَفْقَهَا لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَالْبَرَاعَةُ أَظْهَرُ وَالْفَصَاحَةُ أَتَمُّ.

حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ فِي الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ الْمُبْتَذَلَةِ لَا يَخْلُو مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَانْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْبَتَّةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي ضُرُوبِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْعَرَبِ التَّصَرُّفُ فِيهَا - أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَظْهَرُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى ثَامِنًا: بَيَّنَ فِيهِ وُقُوعَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ مَوْضِعَ الْيَتِيمَةِ مِنْ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ فَتُؤْخَذُ لِأَجْلِهَا الْأَسْمَاعُ، وَتُتَشَوَّفُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَأَجَادَ فِي هَذَا كُلَّ الْإِجَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى التَّاسِعُ: فَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَسْرَارَ الْحُرُوفِ

الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْعَاشِرُ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ يُفِيدُنَا إِيضَاحَ وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ مِمَّا يُسِرُّهُ اللهُ لِكُلِّ عَارِفٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، قَالَ:

وَمَعْنًى عَاشِرٌ: وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلٌ سَبِيلُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْوَحْشِيِّ الْمُسْتَكْرَهِ، وَالْغَرِيبِ الْمُسْتَنْكَرِ، وَعَنِ الصَّنْعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَجَعَلَهُ قَرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ، يُبَادِرُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُسَابِقُ الْمَغْزَى مِنْهُ عِبَارَتَهُ إِلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الْمَطْلَبِ عَسِيرُ الْمُتَنَاوَلِ، غَيْرُ مُطْمِعٍ مَعَ قُرْبِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُوهِمٌ مَعَ دُنُوِّهِ فِي مَوْقِعِهِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يُظْفَرَ بِهِ، فَأَمَّا الِانْحِطَاطُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الْكَلَامِ الْمُبْتَذَلِ، وَالْقَوْلِ الْمُسَفْسَفِ، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَصَاحَةٌ أَوْ بَلَاغَةٌ فَيُطْلَبُ فِيهِ التَّمَنُّعَ، أَوْ يُوضَعُ فِيهِ الْإِعْجَازُ، وَلَكِنْ لَوْ وُضِعَ فِي وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، أَوْ غُمِرَ بِوُجُوهِ الصَّنْعَةِ، وَأُطْبِقَ بِأَبْوَابِ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ، لَكَانَ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ وَيَعْتَذِرَ وَيَعِيبَ وَيَقْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ مَنَارَهُ، وَقَرَّبَ مِنْهَاجَهُ، وَسَهَّلَ سَبِيلَهُ، وَجَعَلَهُ فِي ذَلِكَ مُتَشَابِهًا مُتَمَاثِلًا، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ إِعْجَازَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كَلَامَ فَصَائِحِهِمْ وَشِعْرَ بُلَغَائِهِمْ، لَا يَنْفَكُّ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي غَرِيبٍ مُسْتَنْكَرٍ، أَوْ وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، وَمَعَانٍ مُسْتَبْعَدَةٍ، ثُمَّ عُدُولِهِمْ إِلَى كَلَامٍ مُبْتَذَلٍ وَضِيعٍ لَا يُوجَدُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ، ثُمَّ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>