الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (٢: ١٩٠) ، فَيَا لِلَّهِ مَا أَعْدَلَ الْقُرْآنَ وَمَا أَكْرَمَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَفُّ عَنْ هَؤُلَاءِ مِمَّا قَدْ يَثْقُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُحَالِفِينَ وَتَكْلِيفِهِمْ قِتَالَ كُلِّ أَحَدٍ يُقَاتِلُ مُحَالِفِيهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ تَعَالَى مُخَفِّفًا ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمُؤَكِّدًا أَمْرَ مَنْعِ قِتَالِ الْمُسَالِمِينَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِكُمْ أَنْ كَفَّ عَنْكُمْ بَأْسَ هَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ لَسَلَّطَهُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَيُلْهِمَهُمْ مِنَ الْآرَاءِ مَا يُرَجِّحُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِتَوْفِيقِهِ وَنِظَامِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَسُنَنِهِ فِي الْأَفْرَادِ وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، جَعَلَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً:
١ - السَّلِيمُو الْفِطْرَةِ الْأَقْوِيَاءُ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ.
٢ - الْمُتَوَسِّطُونَ، هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوا مُسَالَمَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ.
٣ - الْمُوغِلُونَ فِي الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ وَالرَّاسِخُونَ فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ.
وَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ الْمُسَالِمِينَ بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِهِ وَسُنَنِهِ فَلَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا،
أَيْ: فَإِنِ اعْتَزَلَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمُتُّونَ إِلَيْكُمْ بِإِحْدَى تَيْنِكَ الطَّرِيقَتَيْنِ فَلَمْ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ: أَعْطُوكُمْ زِمَامَ أَمْرِهِمْ فِي الْمُسَالَمَةِ، بِحَيْثُ وَثِقْتُمْ بِهَا وُثُوقَ الْمَرْءِ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ طَرِيقًا تَسْلُكُونَهَا إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَصْلَ شَرْعِهِ الَّذِي هَدَاكُمْ إِلَيْهِ أَلَّا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مَظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدُّوا أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ لَا يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ إِلَخْ، نَعَمْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِتَالَهُمْ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ ; فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ بِالْمَرَّةِ كَطَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ تَمِيمٍ وَهَوَازِنَ ; لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا صَارُوا إِلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبًا لِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُعَاهِدُوهُ عَلَى تَرْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute