وَجَعْلِهِ قَاتِلَ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ كَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا فَلَا عُذْرَ لَهُ، بَلْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يُرَجِّحَ هَوَاهُ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الشَّكِّ الِاضْطِرَارِيِّ مَا يَكُونُ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُؤَمِنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يُعَاقَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَخْلُدَ فِي النَّارِ، وَإِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَآمَنَ وَاهْتَدَى يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلًا مُرَتَّبًا عَلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَانَ خَطَأً مِنْهُ فَأَشْبَهَ قَتَلَهُ قَتْلَ الْخَطَأِ، وَمَثْلَهُ مَنْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِهِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فِيهِ، فَمَعْصِيَتُهُ لَمْ تَكُنْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ وَلَا دَلِيلًا عَلَى إِيثَارِهِ لِهَوَاهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ.
أَمَّا الْقَاتِلُ الْمُؤْمِنُ فَأَمْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِيمَانُ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَخٌ لَهُ وَنَصِيرٌ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَعْمَدُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَحَلِّ مَا عَقَدَهُ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ دِينِهِ بِهَدْمِ أَرْكَانِ قُوَّتِهِ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَهِنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَضْعُفُوا وَيَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا؟ لَا جَرَمَ أَنَّ عِقَابَهُ يَكُونُ شَدِيدًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَمِنْ نَظَرَ إِلَى انْحِلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى سَفْكِ دَمِ بَعْضٍ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ هَذَا، وَأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُعْذَرُ بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَهُوَ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِ اللهِ، إِذْ لَا رَائِحَةَ لِلْعُذْرِ فِي عَمَلِهِ بَلْ هُوَ مُرَجِّحٌ لِلْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ عَلَى أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْ فَضَّلَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةَ الضَّارَّةَ عَلَى نَظَرِ اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مَا فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٣: ١٣٥) ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: يَعْلَمُونَ، وَلَوْ سَمَحَ اللهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ شَهْوَتَهُ أَوْ حَمِيَّتَهُ وَغَضَبَهُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَوَعَدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ
وَلَا لِلشَّرْعِ حُرْمَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَثِيرَةٌ تُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ.
هَذَا مَا عِنْدَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ مَا يُبَيَّنُ بِهِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَدِّدُونَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ:
" هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ غَلِيظٌ، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute