للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ وَآخَرُ رَضِيَ بِالْمَغْرِبِ لَأُشْرِكَ فِي دَمِهِ، وَفِيهِ إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ، وَفِيهِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.

وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَنْعِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدْعُهُمْ أَشْعَبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ وَمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ، أَنْ يَطْمَعُوا فِي الْعَفْوِ عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٤٧: ٢٤) ، اهـ.

أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَكْبَرَ الْجُمْهُورُ خُلُودَ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِطُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُكْثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إِنْ جَازَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ يَعْفُو عَنْهُ فَلَا يُجَازِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ جَزَاءٍ أَنْ يَقَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَذِبِ الْوَعِيدِ كَالْوَعْدِ، وَأَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّجَاوُزَ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَسْبَابٍ يَعْلَمُهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ تَفَصٍّ مِنْ خُلُودِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ فِي النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَقَلِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِحْلَالِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، مُسْتَحِلًّا لَهُ فَجَزَاؤُهُ

جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا إِلَخْ، وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَيْدُ، وَلَوْ أَرَادَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهَذَا أَضْعَفُ التَّأْوِيلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَلَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " مِنَ الشَّرْطَيَّةِ " جَاءَ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَقُلْ: " وَمَنْ قَتَلَ "، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ حَتْمٌ إِلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ هَذَا الْجَزَاءِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِخُلُودِ غَيْرِ التَّائِبِ الْمَقْبُولِ التَّوْبَةِ فِي النَّارِ، وَلَعَلَّ أَظْهَرَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْخُلُودِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ دَوَامًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَوْنُ حَيَاةِ الْآخِرَةِ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَحْدَهُ بَلْ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى.

إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ شَيْخِنَا وَعِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>