بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ (٢٩: ١٠) ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا (١٦: ١١٠) ، الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَهُ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ قِسْمَيْنِ: دَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَأْمَنِهِمْ، وَدَارُ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرًّا فِي دِينِهِ لَا يُفْتَنُ عَنْهُ، وَحُرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُسَافِرَ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مُضْطَهَدًا فِي دِينِهِ يُفْتَنُ وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لِأَجْلِ هَذَا وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يُسْلِمُ لِيَكُونَ حُرًّا فِي دِينِهِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَلِيَكُونَ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يُهَاجِمُونَهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلِيَتَلَقَّى أَحْكَامَ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِهَا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِي إِسْلَامَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بِالطَّبْعِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ الَّذِي يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَهِجْرَتَهُ وَإِنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْمُقَاوَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ الْبَقَاءَ فِي وَطَنِهِ بَيْنَ
أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ يُؤْثِرُ مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْ مُرَاقَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَظُلْمِهِمْ، وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ حِيلَةٍ يَعْمَلُ وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْهِجْرَةَ لِضِعْفِ دِينِهِ وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَهَا، وَمَنْ يَتْرُكْهَا لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ وَظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَخْ، تَوَفَّى الشَّيْءَ أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَفْظُ تَوَفَّاهُمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ: تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ جَائِزٌ هُنَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيَكُونُ سَحْبُ حُكْمِهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَامًّا بِنَصِّ الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَافَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِرِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي الذُّلِّ وَالظُّلْمِ حَيْثُ لَا حُرِّيَّةَ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ تَوَفِّيهَا لَهُمْ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ - فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute