للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَا حَقِيقَةَ الِاسْتِعْلَامِ عَنْ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَلِهَذَا حَسُنَ فِي جَوَابِهِ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ تَقْصِيرِهِمُ الَّذِي وُبِّخُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِضْعَافِ، أَيْ: إِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَكُونَ فِي شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا لِاسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَنَا، فَرَدَّ الْمَلَائِكَةُ هُنَا الْعُذْرَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وَتُحَرِّرُوا أَنْفُسَكُمْ مَنْ رِقِّ الذُّلِّ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ؟ أَيْ إِنَّ اسْتِضْعَافَ الْقَوْمِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَانِعُ لَكُمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا مُهَاجِرِينَ إِلَى حَيْثُ تَكُونُونَ فِي حُرِّيَّةٍ

مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا فَأُولِئَكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: بَلْ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْخَبَرُ أَمْ لَا لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَارُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، أَيْ وَقَبُحَتْ جَهَنَّمُ مَأْوًى وَمَصِيرًا لِمَنْ يَصِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا يَسُوءُهُ لَا يَسُرُّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِجَهَنَّمَ كَمَا يَتَوَعَّدُ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لِلْقَادِرِ كَانَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَتَبَطَّنُوهُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْوًى مُؤَقَّتًا عَلَى قَدْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْإِقَامَةِ مَعَ الْكُفَّارِ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، وَمَا عَسَاهُمُ افْتَرَقُوا ثَمَّ مِنَ الْمَعَاصِي.

قَالَ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهِ كَمَا يَجِبُ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِقِ عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَقُومُ بِحَقِّ اللهِ، وَأَدْوَمُ عَلَى الْعِبَادَةِ، حَقَّتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرَةُ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِدُعَاءٍ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَتِهِ كَمَا يَجِبُ.

وَهَاكَ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَضْلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ لِغَيْرِ عَجْزٍ فَعَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ مَعْذُورٌ، وَمَعْنَى سَبِيلِ اللهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُرْضِيهِ وَيُقِيمُ دِينَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ قَوْمٍ أَخْلَدُوا إِلَى السُّكُونِ وَقَعَدُوا عَنْ نَصْرِ الدِّينِ بَلْ وَعَنْ إِقَامَتِهِ حَيْثُ هُوَ، وَعَذَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْكَفْرِ حَيْثُ اضْطَهَدَهُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، فَهُمْ بِحُبِّهِمْ لِبِلَادِهِمْ، وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسُكُونِهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ضُعَفَاءُ فِي الْحَقِّ لَا مُسْتَضْعَفُونَ، وَهُمْ بِضَعْفِهِمْ هَذَا قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ خَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>