أَنْ تُقَامَ فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَنَاسَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - مَا يُرِيدُ أَنْ يُرَخِّصَ لِعِبَادِهِ فِيهِ مِنَ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَقَالَ:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ وَعَصَاهُ أَوْ بِقَوَائِمِ رَاحِلَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: طَرَقَ الْأَرْضَ إِذَا مَرَّ بِهَا، كَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالْمِطْرَقَةِ، وَمِنْهُ الطَّرِيقُ أَيْ: السَّبِيلُ الْمَطْرُوقُ، وَقَالَ هَاهُنَا: ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ (٩٤) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلَامِ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ، فَهِيَ رُخْصَةٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الدِّينِ بِأَنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمُسَافِرُ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ، وَهِيَ لَهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ تَضْيِيقٌ وَلَا مَيْلٌ عَنْ مَحَجَّةِ دِينِ اللهِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فِي الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْجُنَاحُ فُسِّرَ بِالْإِثْمِ وَالتَّضْيِيقِ وَبِالْمَيْلِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ جَنَحَتِ
السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ جُنُوحَ السَّفِينَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهَا أَرْضًا رَقِيقَةً تَغْرِزُ فِيهَا وَيُمْتَنَعُ جَرْيُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسِبُ الْجُنَاحَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجُنُوحَ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ، وَهُوَ مِنَ الْجِنْحِ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْجُنَاحَ بِالتَّضْيِيقِ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ جُنِحَ الْبَعِيرُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِذَا انْكَسَرَتْ جَوَانِحُهُ - أَضْلَاعُهُ - لَثِقَلِ حِمْلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْقَصْرُ - بِالْفَتْحِ - مِنَ الْقِصَرِ - كَعِنَبٍ - ضِدُّ الطُّولِ، وَقَصَّرْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ قَصِيرًا.
فَالْقَصْرُ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا تَكُونُ بِهِ قَصِيرَةً، وَيَصْدُقُ بِتَرْكِ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا، وَبِتَرْكِ بَعْضِ أَرْكَانِهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا تَرْكُ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا وَهِيَ صَلَاةُ السَّفَرِ الَّتِي تُقْصِرُ فِيهَا الرُّبَاعِيَّةُ فَقَطْ فَتُصَلَّى ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُطْلَقًا أَوْ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِهَا وَهِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا لَا مِنْ رَكَعَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْقَصْرُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ جَمِيعًا، وَجَمَعَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ بَيْنَ الْأَقْوَالِ فَقَالَ فِي فَصْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ أَبَاحَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَصْرَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِهَا إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ، وَقَصْرُ الْعَدَدِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ سَفَرٌ لَا خَوْفَ مَعَهُ، وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ خَوْفٌ لَا سَفَرَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ هَدْيُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute