وَبِهِ يُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ، اهـ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةُ الْإِيذَاءُ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِيَارُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِيهَا حَمْلُهُمْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ سَاجِدُونَ حَتَّى يَقْتُلُوهُمْ أَوْ يَأْسِرُوهُمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا، وَيَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَةِ اللهِ وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ اهـ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِزَمَنِ الْحَرْبِ بَلْ إِذَا خَافَ الْمُصَلِّي قُطَّاعَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْقَصْرَ.
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، تَعْلِيلٌ لِتَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُظْهِرُونَ لِلْعَدَاوَةِ بِالْقِتَالِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُمْ لَا يُضَيِّعُونَ فُرْصَةَ اشْتِغَالِكُمْ بِمُنَاجَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلَا يَخْشَوْنَهُ فِيكُمْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِيقَاعِ بِكُمْ إِذَا وَجَدُوكُمْ غَافِلِينَ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الْقَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُجْمَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تُبَيِّنُ لَنَا نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُفِيدَ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَعْنًى جَدِيدًا تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْقَصْرِ نَقْصَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورِ إِذْ قَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ الِاصْطِلَاحَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ بِدُونِ تَوْقِيفٍ، وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ أُفَسِّرَ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَذْكُرُ مُلَخَّصَ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَكَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الَّتِي وَرَدَتْ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْجِهَادِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحَثُّ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِهِ، وَإِيجَابِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ أَرْضٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ، وَالْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ السَّفَرَ، وَالْهِجْرَةُ سَفَرٌ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ سَافَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute