للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَحْيًا اخْتَصَّهُ بِهِ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ -، نَاهِيكَ بِهِ وَقَدْ جَزَمَ بِعَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مَا هُوَ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ السَّبْعَةِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَحُجَّةٌ أَنْهَضُ وَأَقْوَى بِاعْتِبَارِ أُمِّيَّةِ مَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ تَمَحُّلُ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِإِعْجَازِهِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي جُمْلَتِهَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهَا؟ كَلَّا.

سَبَقَ لَنَا أَنْ ضَرْبَنَا مَثَلًا لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَجُلًا ادَّعَى فِي بِلَادٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ وَأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ يُدَاوِي الْمَرْضَى بِمَا دَوَّنَهُ فِيهِ فَيَبْرَءُونَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ الْبَارِعُونَ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ خَيْرُ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنَ الْمَرْضَى وَقَبِلُوا مَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فَبَرِءُوا مِنْ عِلَلِهِمْ، وَصَارُوا أَحْسَنَ النَّاسِ صِحَّةً، فَهَلْ يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ هَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؟ كَلَّا. وَإِنَّ

الْعِلْمَ بِطِبِّ الْأَرْوَاحِ أَعْلَى وَأَعَزُّ مَنَالًا مِنَ الْعِلْمِ بِطِبِّ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّ مُعَالَجَةَ أَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِ وَأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَعْسَرُ مِنْ مُدَاوَاةِ أَعْضَاءِ الْأَفْرَادِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالَجَ بِهِ أُمَّةً عَرِيقَةً فِي الشِّقَاقِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، غَرِيقَةً فِي الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ وَرَذَائِلِ الْوَثَنِيَّةِ، فَشُفِيَتْ وَاتَّحَدَتْ، وَتَعَلَّمَتِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَسَادَتِ الْأُمَمَ مِنْ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ بِسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ.

كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ

لَوِ اسْتَدَلَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ الْجَسَدَانِيُّ عَلَى صِحَّةِ دَعَوَاهُ بِعَمَلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ لِلنَّاسِ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالطِّبِّ لَأَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُ، كَذَلِكَ شَأْنُ هَذَا النَّبِيِّ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ الْعِلْمِيَّ الْمُؤَيَّدَ بِنَجَاحِ الْعَمَلِ بِهِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ جَعْلِ عَصَاهُ حَيَّةً أَوْ إِحْيَائِهِ مَيِّتًا. لِأَنَّ هَذَيْنِ عَلَى غَرَابَتِهِمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الطِّبِّ، فَهُمَا إِنْ دَلَّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَدَلَالَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالْإِتْيَانُ بِعَمَلٍ خَارِقٍ لِلْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ مَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ هُوَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِالْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، فَكَيْفَ بِالْإِتْيَانِ بِأَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؟ فَكَيْفَ بِصَلَاحِ حَالِ مَنْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْعُلُومِ دِينًا وَدُنْيَا؟ فَالْقُرْآنُ إِذًا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الطِّبِّ الرُّوحَانِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ وَحْيٌ مِنَ الرَّبِّ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>