للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمَّا الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَأَمْثَالُ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ ثَقُلَ عَلَى طِبَاعِهِمْ تَرْكُ رِيَاسَتِهِمْ، وَصَيْرُورَتُهُمْ أَتْبَاعًا مُسَاوِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْعَصْرُ مِنْ أُنَاسٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ فَعَوَامُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ حِسِّيًّا. وَكَذَلِكَ الْمَفْتُونُونَ بِبَعْضِ الشُّبَهَاتِ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَمْثَالِهِمْ:

عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا

فَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ لَا كَلَامَ لَنَا مَعَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ أَوَّلًا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُونَ مَعْنَى الْوَحْيِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ.

الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ. وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عِلْمٌ يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَلُّمٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مُقْتَرِنًا بِعِلْمٍ وُجْدَانِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَتَمِثْلُ لَهُمْ فَيُلَقِّنُهُمْ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٦: ١٩٢ - ١٩٤) فَأَيُّ اسْتِحَالَةٍ أَوْ بُعْدٍ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ؟

وَعَرَّفَهَ شَيْخُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: ((بِأَنَّهُ عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يُتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. (قَالَ) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ)) ، ثُمَّ بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا وَوُقُوعَهُ وَأَسْبَابَ شَكِّ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا.

وَأَمَّا تَمَثُّلُ الْمَلَكِ فَكَانُوا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَنَقُولُ الْيَوْمَ: إِنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيبًا إِلَّا وَقَرَّبَتْهُ إِلَى الْعَقْلِ، بَلْ وَإِلَى الْحِسِّ تَقْرِيبًا، بَلْ ظَهَرَ مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا كَانَ يُعَدُّ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مُحَالًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ لَا غَرِيبًا فَقَطْ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْكِيمْيَائِيُّ يُحَلِّلُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ حَتَّى تَصِيرَ غَازَاتٍ لَا تُرَى مِنْ شِدَّةِ لُطْفِهَا، وَيُكَثِّفُ الْعَنَاصِرَ اللَّطِيفَةَ فَتَكُونُ كَالْجَامِدَةِ بِطَبْعِهَا، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ تَكْثِيفُ الْمَلَكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَرْوَاحِ ذَاتِ الْمِرَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَوَادِّ الْعَالَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِيهِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>