للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ السِّيَاقِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّكَ تَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التِّكْرَارِ الَّذِي يَفِرُّونَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّاعِرِ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فِي قَصِيدَتَيْنِ يَمْدَحُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلًا

غَيْرَ الَّذِي يَمْدَحُهُ فِي الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ: إِنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تُكَأَتُهُمْ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ تِكْرَارٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ مُنْتَقِدًا وَمُخِلًّا بِالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ رُكْنُ الْبَلَاغَةِ الرَّكِينِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ مِنَ النَّفْسِ بِدُونِهِ.

وَأَمَّا مَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلَا يَصُدُّنَا ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ شَيْئًا هُنَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا: أَكَّدَ اللهُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ شِرْكَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ أَنَّ عِقَابَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُذْنِبِينَ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ السُّكَّرَ يُحْدِثُ فِي الْبَدَنِ أَمْرَاضًا يَتَعَذَّبُ صَاحِبُهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا يُحَدِثُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَطَايَا أَمْرَاضًا فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ يَتَعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْآخِرَةِ وَكَمَا أَنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ وَصِحَّةَ الْمِزَاجِ تَغْلِبُ بَعْضَ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَأْثِيرٌ مُؤْلِمٌ يُعَذِّبُ صَاحِبَهُ كَذَلِكَ قُوَّةُ الرُّوحِ بِالتَّوْحِيدِ وَصِحَّةُ مِزَاجِهَا بِالْإِيمَانِ، وَالْفَضَائِلُ تَغْلِبُ بَعْضَ الْمَعَاصِي الَّتِي قَدْ يُلِمُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا مِنْ قَرِيبٍ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ لَا تَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ فَيَقْطَعُ نِيَاطَهُ أَوْ لِلدِّمَاغِ فَيُتْلِفُهُ، كَذَلِكَ الشِّرْكُ يُشْبِهُ فِي إِفْسَادِهِ لِلْأَرْوَاحِ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ أَوِ الدِّمَاغَ مِنْ سَهْمٍ نَافِذٍ أَوْ رَصَاصَةٍ قَاتِلَةٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ.

ذَلِكَ بِأَنَّ الشِّرْكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ مُنْتَهَى فَسَادِ الْأَرْوَاحِ وَسَفَاهَةِ الْأَنْفُسِ وَضَلَالِ الْعُقُولِ فَكُلُّ حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ يُقَارِنُهُ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ شُرُورِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَالْعُرُوضِ إِلَى جِوَارِ اللهِ - تَعَالَى - بِرُوحِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقَةً بِشُرَكَاءَ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُلُوصِ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَالْمُذْنِبُ قَدْ يَكُونُ فِي إِيمَانِهِ وَسَرِيرَتِهِ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ وَحْدَهُ، فَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَعْصِي وَقَدْ يَأْبَقُ فَلَا الْعِصْيَانُ وَلَا الْإِبَاقُ يُخْرِجَانِهِ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ

لَا قِنًّا وَلَا مُبْغِضًا ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩: ٢٩) ،

<<  <  ج: ص:  >  >>