للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ: هُوَ الرُّكْنُ الْأَهَمُّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ عِنْدَ تَرْكِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَعْبِيرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جَدًا يَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُ مَنِ اخْتَبَرَ أَحْوَالَ الْبَشَرِ فِي عِبَادَاتِهِمْ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي يُثِيرُهَا الِاعْتِقَادُ الرَّاسِخُ مِنْ أَعْمَاقِ النَّفْسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَكُلَّهُ أَوْ جُلَّهُ تَعْلِيمِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ يُفْعَلُ بِالتَّكَلُّفِ وَالْقُدْوَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا مِنَ الشُّعُورِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ أَوِ الْعَمَلُ عِبَادَةً وَهُوَ الشُّعُورُ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءُ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَدْعِيَةَ التَّعْلِيمِيَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ دُعِيَ بِهَا اللهُ وَحْدَهُ أَوْ دُعِيَ بِهَا غَيْرُهُ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا الْأَدْعِيَةُ الرَّاتِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَوْقُوتَةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ لَهَا يُحَرِّكُ بِهَا لِسَانَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ جَدُّ الْعِبَادَةِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَفِيضُ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ سُوَيْدَاءِ الْقَلْبِ وَقُرَارَةِ النَّفْسِ، عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالشُّعُورِ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ، وَاسْتِعْصَاءِ الْوَسَائِلِ إِلَيْهِ، وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ دُونَهُ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، وَذَوِي الْكُرُبَاتِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمُلِمَّاتِ، وَفِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، وَلَدَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الْخَالِصُ الَّذِي يَغْشَاهُ جَلَالُ الْإِخْلَاصِ، وَيُمَثِّلُ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ مَعْنَى الْخُشُوعِ التَّامِّ وَنَاهِيكَ بِمَا يُفَجِّرُهُ هَذَا الْخُشُوعُ مِنْ

يَنَابِيعِ الدُّمُوعِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي يَسْتَغِلُّهُ سَدَنَةُ الْهَيَاكِلِ وَيَسْتَثْمِرُهُ خَدَمَةُ الْمَقَابِرِ، وَيَضَنُّ بِهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ أَرْكَانِ رِيَاسَتِهِمْ عَلَى الْعَوَامِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَنُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِجُمْهُورِ الْجَاهِلِينَ غِنًى عَنْهُ، وَلَا يَرَى فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ اسْتِبْدَالَ التَّوْحِيدِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَعْلَى إِخْلَاصًا، وَأَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ وَخُشُوعًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (٢: ١٦٥) .

وَمِنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَيْ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا فَيَدْعُهُ مَعَهُ، وَيَذْكُرِ اسْمَهُ مَعَ اسْمِهِ، أَوْ يَدْعُهُ مِنْ دُونِهِ، مُلَاحِظًا فِي دُعَائِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ غَيْرَ مُلَاحِظٍ ذَلِكَ وَلَا مُتَذَكِّرٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذُكِّرَ بِهِ لَذَكَرَهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ فِي الْعِبَادَةِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي الدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَاهَا ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهِ يَكُونُ وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى النَّفْسِ مُسْتَعْبِدًا لَهَا، وَدُونَهُ الشِّرْكُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ الَّذِي يُحَاجُّكَ صَاحِبُهُ بِالشُّبَهَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>