شَحِيحَاتٍ بِهَا، وَالرِّجَالُ أَيْضًا حَرِيصُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَشِحَّةٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الَّذِي يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَأَنْ يُعَالِجَهُ فَلَا يَبْخَلُ بِمَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ وَالتَّسَامُحُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مِنْ أَقْبَحِ الْبُخْلِ أَنْ يَبْخَلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ الْآخَرِ، بَعْدَ أَنْ أَفْضَى بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ وَارْتَبَطَا بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّسَامُحُ بَيْنَهُمَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْآتِيَةُ:
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، أَيْ: وَإِنْ تُحْسِنُوا الْعِشْرَةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَتَتَرَاحَمُوا وَتَتَعَاطَفُوا وَيَعْذُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَتَّقُوا النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَنْعِ الْحُقُوقِ أَوِ الشِّقَاقِ، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبِيرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ فِيهِ، فَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْكُمْ بِالْحُسْنَى، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا بِالْعَاقِبَةِ الْفُضْلَى قَالَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى نِسَائِهِمْ وَعَدَمِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ، وَإِنْ كَرِهُوهُنَّ لِكِبَرِهِنَّ أَوْ دَمَامَتِهِنَّ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (٤: ١٩) .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذِهِ الْآيَةُ فَتْوَى أُخْرَى غَيْرُ الْفَتَاوَى الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُسْتَفْتُونَ عَنْهَا هُمُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ زَوْجَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (٤: ٣) ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ عَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاوِيًا الْعَدْلَ حَرِيصًا عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ وُعُورَةُ مَسْلَكِهِ، وَاشْتِبَاهُ أَعْلَامِهِ، وَالتَّحْدِيدُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ اخْتِيَارُهُ مِنْهُ، فَالْوَرِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُحَاوِلُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ، وَالْبَشَاشَةِ وَالْأُنْسِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَيَرَى أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ الْوِجْدَانُ النَّفْسِيُّ، وَالْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَا يَمْلِكُ آثَارَهُ الطَّبِيعِيَّةَ، وَلَوَازِمَهُ الْفِطْرِيَّةَ، فَخَفَّفَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَدْلَ الْكَامِلَ بَيْنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَهْمَا حَرَصْتُمْ عَلَى أَنْ تَجْعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ كَالْغِرَارَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْعَدْلِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ بِحِرْصِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ لَمَا قَدَرْتُمْ عَلَى إِرْضَائِهِمَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، إِلَى الْمَحْبُوبَةِ مِنْهُنَّ بِالطَّبْعِ، الْمَالِكَةِ لِمَا لَا تَمْلِكُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْقَلْبِ فَتُعْرِضُوا بِذَلِكَ عَنِ الْأُخْرَى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، كَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ وَغَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُغْفَرُ لَكُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالطَّبْعِ، هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَكُونُ
مِنْ تَعَمُّدِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْإِهْمَالِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا لَهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَإِنْ تُصْلِحُوا فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا ظُلْمَهُنَّ وَتَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute