للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا الْفِقْرَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُولُهُ عَرَبِيٌّ قُحٌّ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَالٌ لِلسَّحَرَةِ تُعْتَمَدُ أَوْ لَا تُعْتَمَدُ إِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا، وَإِنَّمَا السَّحَرَةُ أُنَاسٌ مُفْسِدُونَ مُحْتَالُونَ فَعَّالُونَ لَا قَوَّالُونَ.

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي غَيَّرَهَا مِنَ السُّورَةِ صَحِيحَةٌ وَمُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ وَمُقْتَضَى الْحَالِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُعَارِضًا لَهَا بَلْ مُقَلِّدًا وَنَاقِلًا فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِاقْتِبَاسِ مَعَ التَّصَرُّفِ،

كَمَنْ يُغَيِّرُ قَافِيَةَ أَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ بِمَعْنَاهَا أَوْ بِمَعْنَى آخَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ... أَنْ يُعَادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا

لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ... وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْحِدَقَا

قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ... فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاحْتَرَقَا

غَيَّرْتُ قَوَافِيَهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى بِالْبَدَاهَةِ فَقُلْتُ:

مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ... أَنْ يُعَادَى طَرْفَ مَنْ مَقَلَا

لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ... وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْمُقَلَا

قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ... فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاشْتَعَلَا

" مَقَلَ " نَظَرَ بِمُقْلَتِهِ، ثُمَّ غَيَّرْتُهَا أَيْضًا بِكَلِمَاتِ: نَظَرَا، أَوْ بَصَرَا - النَّظَرَا - فَاسْتَعَرَا - فَهَلْ أَكُونُ بِهَذَا مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ، وَفِي طَبَقَةِ صَاحِبِهِ مَنْ غَزَلِ الشِّعْرِ؟

إِعْجَازُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ:

وَأَمَّا السُّورَةُ فَهِيَ فِي أُفُقٍ أَعْلَى مِمَّا قَالَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَيْهِ الْمُبَشِّرُ الْجَاهِلُ الْمُخَادِعُ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.

" الْكَوْثَرُ " فِي السُّورَةِ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَحْكِيهِ أَوْ يَحُلُّ مَحَلَّهُ فِيهَا، إِذْ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْبَالِغُ مُنْتَهَى حُدُودِ الْكَثْرَةِ فِي الْخَيْرِ حِسِّيًّا كَانَ، كَالْمَالِ وَالرِّجَالِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى السَّخِيِّ الْجَوَادِ أَيْضًا.

وَأَمَّا مَوْقِعُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْقِعُ كَلِمَةِ " الْأَبْتَرِ " فِي آخِرِهَا اللَّذَانِ اقْتَضَتْهُمَا الْبَلَاغَةُ وَتَأْبَى أَنْ يَحُلَّ غَيْرُهُمَا مَحَلَّهُمَا، فَهُوَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الْمَوْتَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الدَّوَائِرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَزُولُ بِزَوَالِ شَخْصِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٥٢: ٣٠ - ٣١) وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَمَا رَأَوْا أَبْنَاءَهُ يَمُوتُونَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، أَوْ صَارَ أَبْتَرَ، أَيِ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>