بِانْقِطَاعِ وَلَدِهِ وَعَصَبِيَّتِهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْفَقْرَ وَانْقِطَاعَ الْعَقِبِ مَطْعَنًا فِي دِينِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَوْدِيعِ اللهِ لَهُ وَعَدَمِ عِنَايَتِهِ بِهِ تَبَعًا لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْغِنَى
وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى رِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَتَهُمْ، وَدَحَضَ حُجَّتَهُمْ، وَجَعَلَ فَأْلَهَمَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ لَمَّا بَيَّنَ مَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ، قَالَ مَا تَفْسِيرُهُ بِالْإِيجَازِ:
(إِنَّا) بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (أَعْطَيْنَاكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (الْكَوْثَرَ) : الَّذِي لَا تُحَدُّ كَثْرَتُهُ وَلَا تُحْصَرُ، مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَمَا لَا يُحْصَرُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْكَ فَتُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيُصَلَّى وَيُسَلَّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَالْحَوْضِ الَّذِي يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَحْشَرِ، فَلَفْظُ " الْكَوْثَرِ " يَشْمَلُ كُلَّ هَذَا وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَةِ وَنَبَأِ الْغَيْبِ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ: (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١٦: ١) أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِنْشَاءِ. . . فَأَيْنَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُوَافَقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ كَلِمَةِ " الْجُمَاهِرِ " الَّتِي اسْتَبْدَلَهَا بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَهِيَ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الضَّخْمُ - أَوْ كَلِمَةِ " الْجَوَاهِرِ " الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُبَشِّرُ الْمُرْتَابُ السَّبَّابُ، وَهِيَ كَذِبٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ؟
وَوَصَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْعُظْمَى بِالْأَمْرِ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وَمُتَوَلِّي أَمْرِكَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، (وَانْحَرْ) ذَبَائِحَ نُسُكِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦: ١٦٢) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِي يَتِمُّ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَبِحَجِّهِ وَنُسُكِهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ - وَقَدْ كَانَ - وَنَحَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ خَاصَّةٌ بَعْدَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ الْعَامَّةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبِشَارَةٍ ثَالِثَةٍ: هِيَ تَمَامُ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ أَوْرَدَهَا مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ شَانِئِيهِ وَمُبْغَضِيهِ الَّذِينَ رَمَوْهُ بِلَقَبِ الْأَبْتَرِ وَتَرَبَّصُوا بِهِ الدَّوَائِرَ لِمَا يَرْجُونَ مِنَ انْقِطَاعِ ذِكْرِهِ وَاضْمِحْلَالِ دَعْوَتِهِ؟ فَأَجَابَ: (إِنَّ شَانِئَكَ) أَيْ
مُبْغِضَكَ وَعَائِبَكَ بِالْفَقْرِ وَفَقْدِ الْعَقِبِ (هُوَ الْأَبْتَرُ) مِنْ دُونِكَ - وَهَذَا إِخْبَارٌ آخَرُ بِالْغَيْبِ قَدْ صَحَّ وَتَحَقَّقَ بَعْدَ كَرِّ السِّنِينَ، وَلَفْظُ " شَانِئٍ " مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَمَعْنَاهُ عَامٌّ، فَهُوَ يَشْمَلُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا أَوْ مُوَافَقَةً لِإِخْوَانِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَقَدْ بُتِرُوا كُلُّهُمْ وَهَلَكُوا، ثُمَّ نُسُوا كَأَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا، وَزَالَ مَا كَانُوا يَرْجُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute