للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَكَانَ يَكْتَفِي فِي دَعْوَتِهِ الْأَوْلَى لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ شِرْكَهُمْ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، بِوَاسِطَتِهِمْ يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ، وَأَمَّا مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ مِثْلُ هَذَا الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، وَاتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِنْ حَوَارِيِّيهِ وَغَيْرِهِمْ، آلِهَةً بِالْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا.

فَلَوْلَا أَنَّ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ أَصْلُ هَذِهِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، لَمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ.

أَمَّا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَمَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ دُعَاةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ، فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا لِلدَّعْوَةِ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَفِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ لَنَا حُضُورُهَا مَعَ بَعْضِهِمْ، فَهِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَى اللهَ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا صَارَ هُوَ وَجَمِيعُ أَفْرَادِ ذُرِّيَّتِهِ خُطَاةً مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، ثُمَّ إِنْ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ جَاءُوا خُطَاةً مُذْنِبِينَ فَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَيْضًا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ بِذَنْبِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمَّا

كَانَ اللهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفًا بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ جَمِيعًا، طَرَأَ عَلَيْهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) مُشْكِلٌ مُنْذُ عَصَى آدَمُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَاقَبَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِرَحْمَتِهِ فَلَا يَكُونُ رَحِيمًا! ! وَإِذَا لَمْ يُعَاقِبْهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعَدْلِهِ فَلَا يَكُونُ عَادِلًا! ! فَكَأَنَّهُ مُنْذُ عَصَى آدَمُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي وَسِيلَةٍ يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ (سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ ابْنُهُ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ هُوَ نَفْسُهُ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَيَتَّحِدُ بِجَنِينٍ فِي رَحِمِهَا، وَيُولَدُ مِنْهَا، فَيَكُونُ وَلَدُهَا إِنْسَانًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُهَا، وَإِلَهًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَابْنُ اللهِ هُوَ اللهُ، وَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعِيشَ زَمَنًا مَعَهُمْ يَأْكُلُ مِمَّا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَشْرَبُونَ، وَيَتَلَذَّذُ كَمَا يَتَلَذَّذُونَ وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُونَ، يُسَخِّرُ أَعْدَاءَهُ لِقَتْلِهِ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ قِتْلَةُ الصَّلْبِ الَّتِي لَعَنَ صَاحِبَهَا فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَيَحْتَمِلُ اللَّعْنَ وَالصَّلْبَ لِأَجْلِ فِدَاءِ الْبَشَرِ وَخَلَاصِهِمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى: وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا ; لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (٣٧: ١٨٠) .

كُنْتُ مَرَّةً مارًّا بِشَارِعِ مُحَمَّدِ عَلِيٍّ فِي الْقَاهِرَةِ، وَأَنَا قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ يَدْعُو كُلَّ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ تَفَضَّلُوا تَعَالَوُا اسْمَعُوا كَلَامَ اللهِ. وَلَمَّا خَصَّنِي بِالدَّعْوَةِ أَجَبْتُ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا بِنَاسٍ عَلَى مَقَاعِدَ مِنَ الْخَشَبِ فِي رَحْبَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>