مَا بَعْدَ الْأُولَى مُخْبِرًا عَنْهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَفْرَادُ كُلِّ طَبَقَةٍ لَا يُجَوِّزُ عَقْلُ عَاقِلٍ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ قَدْ سَمِعَ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمُ التَّوَاتُرُ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ. وَأَنْ يَتَّصِلَ السَّنَدُ هَكَذَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَنْعَقِدُ التَّوَاتُرُ.
وَأَنَّى لِلنَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ؟ وَالَّذِينَ كَتَبُوا الْأَنَاجِيلَ، وَالرَّسَائِلَ الْمُعْتَمَدَةَ عِنْدَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، وَمَنْ تُنْقَلُ عَنْهُ الْمُشَاهَدَةُ كَبَعْضِ النِّسَاءِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْوَهْمُ. بَلْ قَالَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ: إِنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَهِيَ أَعْرِفُ النَّاسِ بِالْمَسِيحِ اشْتَبَهَتْ فِيهِ وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَاحِبَ آيَاتٍ، وَخَوَارِقَ عَادَاتٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَنْجُوَ بِالتَّشَكُّلِ بِصُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، كَمَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ " وَكَمَا قَالَ مُرْقُسْ: إِنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ لِلنَّصَارَى فِيهِ مُلْكٌ وَحُرِّيَّةٌ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا دِينَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ انْقِطَاعَ أَسَانِيدِ هَذِهِ الْكُتُبِ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) : يَقُولُونَ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُتَوَاتِرَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، لَوُجِدَ، فِيهِمْ، مَنْ أَنْكَرَهَا، كَمَا وُجِدَتْ فِيهِمْ فِرَقٌ خَالَفَتِ الْجُمْهُورَ فِي أُصُولِ عَقَائِدِهِ ; كَالتَّثْلِيثِ، وَلَمْ تُخَالِفْهُ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَجْهَلُ تَارِيخَهُمْ، يَسِيرٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الصَّلْبَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ السِّيرِنِثِيِّينَ، وَالتَّاتْيَانُوسِيِّينَ أَتْبَاعُ تَاتْيَانُوسَ تِلْمِيذِ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدِ، وَقَالَ فُوتْيُوسُ: إِنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا يُسَمَّى: " رِحْلَةُ الرُّسُلِ " فِيهِ أَخْبَارُ بُطْرُسَ، وَيُوحَنَّا، وَأَنْدَرَاوِسْ، وَتُومَا، وَبُولُسْ، وَمِمَّا قَرَأَهُ فِيهِ: " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُصْلَبْ، وَلَكِنْ صُلِبَ غَيْرُهُ، وَقَدْ ضَحِكَ
بِذَلِكَ مِنْ صَالِبِيهِ "
هَذَا، وَإِنَّ مَجَامِعَهُمُ الْأُولَى قَدْ حَرَّمَتْ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الَّتِي تُخَالِفُ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ، وَالرَّسَائِلَ الَّتِي اعْتَمَدَتْهَا، فَصَارَ أَتْبَاعُهُمْ يَحْرِقُونَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَيُتْلِفُونَهَا، وَإِنَّنَا نَرَى مَا سَلِمَ بَعْضُ نُسَخِهِ، مِنْهَا، كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا يُنْكِرُ الصَّلْبَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ الَّتِي فُقِدَتْ كَانَتْ تُنْكِرُهُ أَيْضًا، فَنَحْنُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِاخْتِيَارِ الْمَجَامِعِ لِمَا اخْتَارَتْهُ، فَنَجْعَلُهُ حُجَّةً، وَنَعُدُّ مَا عَدَاهُ كَالْعَدَمِ. عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْمُنْكِرِينَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِمْ، وَعَدَمُ وُجُودِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) : يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ، وَرَسَائِلَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ قَدْ أَثْبَتَتِ الصَّلْبَ، وَهِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ مَا أَثْبَتَتْهُ.
وَنَقُولُ (أَوَّلًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَلَا عَلَى أَنَّ كَاتِبِيهَا كَانُوا مَعْصُومِينَ، وَ (ثَانِيًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ (ثَالِثًا)
:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute