للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، رَأَى مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالضُّبَّاطِ أَكْدَاسًا مِنَ النَّاسِ يَمُوجُونَ وَيَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ، وَسَمِعُوا ضَجِيجًا مُبْهَمًا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهٍ عَدِيدَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْمَرْئِيَ وَجَدُوهُ أَغْصَانَ أَشْجَارٍ مُغَطَّاةٍ بِأَوْرَاقٍ قُطِعَتْ مِنَ الشَّاطِئِ الْقَرِيبِ. وَإِذْ تَجَلَّتِ الْحَقِيقَةُ غَابَ الْخَيَالُ.

" هَذَا الْمِثَالُ يُوَضِّحُ لَنَا عَمَلَ الْخَيَالِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَالٍ لَا تَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وَلَا الْإِبْهَامَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. فَهُنَا جَمَاعَةٌ فِي حَالَةِ الِانْتِظَارِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَهُنَاكَ رَائِدٌ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَرْكَبٍ حَفَّهُ الْخَطَرُ وَسَطَ الْمَاءِ، فَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ سَرَتْ عَدْوَاهُ، فَتَلَقَّاهُ كُلُّ مَنْ فِي الْبَاخِرَةِ مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ.

ثُمَّ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْخِدَاعِ يَقَعُ لِلْجَمَاعَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اخْتِصَاصِهِمُ الْعِلْمِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ:

(قَالَ) : وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ لَنَا (مِسْيُو دَافِي) أَحَدُ عُلَمَاءِ النَّفْسِ الْمُحَقِّقِينَ وَقَدْ نَشَرَتْهُ حَدِيثًا مَجَلَّةُ (أَعْصُرُ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ) وَهُوَ: دَعَا (مِسْيُو دَافِي)

جَمَاعَةً مِنْ كِبَارِ أَهْلِ النَّظَرِ ; مِنْهُمْ عَالِمٌ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ إِنْكِلْتِرَةَ وَهُوَ (مِسْتَرْ وَلَاسْ) وَقَدَّمَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمَسُوهَا بِأَيْدِيهِمْ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا خُتُومًا كَمَا شَاءُوا، ثُمَّ أَجْرَى أَمَامَهُمْ جَمِيعَ ظَوَاهِرِ فَنِّ اسْتِخْدَامِ الْأَرْوَاحِ: مِنْ تَجْسِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْأَلْوَاحِ، حَتَّى كَتَبُوا لَهُ شَهَادَاتٍ قَالُوا فِيهَا: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ أَمَامَهُمْ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِقُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّةِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الشَّهَادَاتُ فِي يَدِهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ شَعْوَذَةٌ بَسِيطَةٌ جِدًّا. قَالَ رَاوِي الْحَادِثَةِ: لَيْسَ الَّذِي يُوجِبُ الدَّهَشَ وَالِاسْتِغْرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ إِبْدَاعُ (دَافِي) وَمَهَارَتُهُ فِي الْحَرَكَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا. بَلْ هُوَ ضَعْفُ الشَّهَادَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ " ثُمَّ اسْتَنْتَجَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ انْخِدَاعُ الْعُلَمَاءِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَاقِعًا فَمَا أَسْهَلَ انْخِدَاعَ الْعَامَّةِ! .

ثُمَّ ذَكَرَ حَادِثَةً وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ كِتَابَتِهِ لِهَذَا الْبَحْثِ، وَخَاضَتْ فِيهِ جَرَائِدُ بَارِيسَ، وَكَانَ مَنْشَأُ الِانْخِدَاعِ فِيهَا الشَّبَهَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ بَحْثِنَا، قَالَ (فِي ص ٥٠ مِنَ النُّسْخَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَرْجَمَةِ) :

" أَنَا أَكْتُبُ هَذِهِ السُّطُورَ، وَالْجَرَائِدُ مَلْأَى بِذِكْرِ غَرَقِ بِنْتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَإِخْرَاجِ جُثَّتَيْهِمَا مِنْ نَهْرِ (السِّينِ) عُرِضَتِ الْجُثَّتَانِ، فَعَرَفَهُمَا بِضْعَةُ عَشَرَ شَخْصًا مَعْرِفَةً مُؤَكَّدَةً، وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهَا اتِّفَاقًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَكٌّ فِي نَفْسِ قَاضِي التَّحْقِيقِ فَأَذِنَ بِدَفْنِهِمَا، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِذَلِكَ سَاقَ الْقَدْرُ الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا الشُّهُودُ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَهَرَ أَنَّهُمَا بَاقِيَتَانِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَفْقُودَتَيْنِ إِلَّا شَبَهٌ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا: تَخَيَّلَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْغَرِيقَتَيْنِ هُمَا فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَسَرَتْ عَدْوَى التَّأْثِيرِ إِلَى الْبَاقِي " اهـ.

تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى تَخَيُّلِ بَعْضِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ تَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>