للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السَّلَامُ - مِرَارًا وَتَلَقَّى عَنْهُمَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ مَرْيَمَ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا وَنَفْخِهِ فِيهَا، فَأَجَابَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوُ مَا يَحْصُلُ بِالزَّوَاجِ مِنَ التَّلْقِيحِ، وَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَرْوَاحِ الَّذِي نَسْمَعُهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ، هَلْ هُوَ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُؤْثَرُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُ حِيَلٌ، وَبَعْضَهُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ مَا عِنْدَنَا وَأَبْعَدُ عَنْهُ بِمَرَاحِلَ. وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ هَذَا الرَّجُلَ بِالْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَتَّهِمُ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ خَيَالِيَّةً أَيْضًا كَرُؤْيَةِ الشَّيْخِ رَاغِبٍ فَهِيَ تُؤَكِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً - وَهِيَ وَلَا شَكَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ - فَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِخَبَرِ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ الْخَيَالِيَّةِ، الْمُقَرَّرِ مِثْلُهَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ.

حَاصِلُ الْمَبَاحِثِ وَالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَسِيحِ: حَاصِلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ: أَنَّ قِصَّةَ الصَّلْبِ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَى الْأَفْرَادِ الَّذِينَ رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَأُولَئِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ رَوَوْهَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَأَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ الْآنَ هُوَ بُولِسِ الْيَهُودِيُّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَلَدَّ خُصُومِ أَتْبَاعِهِ خِصَامًا، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نِكَايَتِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ إِلَّا بِدُخُولِهِ فِيهِمْ، فَفَعَلَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الصَّلْبِ، وَرُؤْيَةِ الْمَسِيحِ بَعْدَهُ،

فَالَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي تَصْوِيرِهِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ.

وَلَا يَرُوعَنَّ الْقَارِئَ الْمُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ هَذِهِ الشُّهْرَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بِانْتِشَارِ النَّصَارَى فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي إِثْبَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ كَوْنَهُ فِي زَمَنِ وُقُوعِهَا، كَمَا ثَبَتَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ حِفْظًا وَكِتَابَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهْرَةَ الْمُنْتَشِرَةَ لِلْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَمْنَعْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ مِنَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ قِصَّتِهِ خَيَالِيَّةً، لَا حَادِثَ الصَّلْبِ وَالْقِيَامِ مِنْهَا فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ فِي بَعْضِ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ، وَفِي (هُومِيروُسَ) شَاعِرِ الْيُونَانِ الَّذِي تُضْرَبُ بِشِعْرِهِ الْأَمْثَالُ، فَهُوَ أَشْهَرُ رَجُلٍ فِي تَارِيخِ أُمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِ تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمَثَلُهُ فِي تَارِيخِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ قَيْسٌ الْعَامِرِيُّ الشَّهِيرُ بِمَجْنُونِ لَيْلَى. ذَكَرَ فِي (الْأَغَانِي) رِوَايَاتٍ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الشِّعْرَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ هُوَ لِبَعْضِ كُبَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، عَزَاهُ إِلَى مَجْهُولٍ تَسَتُّرًا بِعِشْقِهِ.

مِثْلُ هَذَا فِي التَّارِيخِ كَثِيرٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عَقْلًا، وَلَكِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ لَا لِذِكْرِهِ فِي أَنَاجِيلِهِمْ، وَكُتُبِهِمْ، فَكَمْ فِي الْكُتُبِ مِنْ قِصَصٍ خَيَالِيَّةٍ مِثْلَ قِصَّتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>