لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِي التَّنَقُّلِ، ثُمَّ إِنَّ أَطْوَارَ الْجَنَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَطْوَارِ الدُّنْيَا، وَالتَّشْوِيقُ لِلنَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا عَهِدُوا وَاعْتَادُوا وَأَلِفُوا، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ حِفْظِ الْبِنْيَةِ مِنَ الِانْحِلَالِ، وَلَا انْحِلَالَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْبَقَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ هُنَاكَ عَلَى مَا وَرَدَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، أَوْ هُوَ لِتَحْصِيلِ لَذَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ أَمْرَ حَقِيقَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ لَذَّةٌ أَعْلَى مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.
أَقُولُ: بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: ((لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي)) وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٢: ١٧) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ عَيْنُ مَا وُعِدُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَكُلَّمَا رُزِقُوا ثَمَرَةً مِنْهُ يَذْكُرُونَ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِمْ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَعَدَّ هَذَا الْجَزَاءَ، كَمَا تُفِيدُهُ آيَةُ (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِبَاطِ الْمَوْعُودِ بِهِ بِالْمَوْعُودِ عَلَيْهِ كَأَنَّ الْأَعْمَالَ عَيْنُ الْجَزَاءِ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩٩: ٧ - ٨) وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُنَالِكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ رِزْقَ الْجَنَّةِ وَثَمَرَهَا يَتَشَابَهُ عَلَى أَهْلِهَا فِي صُورَتِهِ، وَيَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَذَّتِهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أَيْ مُبَالَغٌ فِي تَطْهِيرِهِنَّ وَتَزْكِيَتِهِنَّ فَلَيْسَ فِيهِنَّ مَا يُعَابُ مِنْ خَبَثٍ جَسَدِيٍّ حَتَّى مَا هُوَ فِي الدُّنْيَا طَبِيعِيٌّ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا نَفْسِيٍّ كَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَسَائِرِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُنَّ طَهُرْنَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّطْهِيرِ، وَنِسَاءُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الصَّالِحَاتِ وَهُنَّ الْمَعْرُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَصُحْبَةُ الْأَزْوَاجِ فِي الْآخِرَةِ كَسَائِرِ شُئُونِهَا الْغَيْبِيَّةِ نُؤْمِنُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا لَا نَزِيدُ فِيهِ وَلَا نُنْقِصُ مِنْهُ، وَلَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ أَطْوَارَ الْحَيَاةِ
الْآخِرَةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لَذَّةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمُصَاحِبَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ هِيَ التَّنَاسُلُ وَإِنْمَاءُ النَّوْعِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ تَنَاسُلًا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَذَّةُ الْمُصَاحَبَةِ الزَّوْجِيَّةِ هُنَاكَ أَعْلَى وَحِكْمَتُهَا أَسْمَى، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ رِزْقِ الْجَنَّةِ.
(أَقُولُ) : هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُثْلَى فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ لِعَالَمِهِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا لَا مَلَكًا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute