للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانَ الصَّحَابَةُ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الْبِرِّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنَانِ لَهُمْ خِصَالَ الْبِرِّ وَأَعْمَالَهُ وَآيَاتِهِ، وَمَا قَدْ يَغْلَطُونَ فِي عَدِّهِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (٢: ١٨٩) وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَ الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ، وَيَعُدُّونَ هَذَا مِنَ النُّسُكِ وَالْبِرِّ، وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٢: ١٧٧) فَهَذَا بَيَانٌ لِأَهَمِّ أَرْكَانِ الْبِرِّ فِي الدِّينِ ; مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتَنَاجُوا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى (٥٨: ٩) .

فَمَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْبِرِّ مِصْدَاقٌ لِمَا فَسَّرَهُ بِهِ الرَّاغِبُ مِنْ أَنَّهُ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ (الْبَرِّ) بِالْفَتْحِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَحْرِ بِتَصَوُّرِ سِعَتِهِ، وَإِلَّا قُلْنَا: إِنَّ الْبِرَّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعَدُّ خَصْلَةً أَوْ شُعْبَةً مِنَ الْبِرِّ.

أَمَّا الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْهِدَايَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى النَّاسِ إِيجَابًا دِينِيًّا أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ أَفْرَادًا وَأَقْوَامًا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى الَّتِي يَدْفَعُونَ بِهَا الْمَفَاسِدَ وَالْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّحْلِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ التَّحْلِيَةَ بِالْبِرِّ، وَأَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ ; وَهُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ بِالْمَعَاصِي وَكُلِّ مَا يَعُوقُ عَنِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَلَى الْعُدْوَانِ الَّذِي يُغْرِي النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَجْعَلُهُمْ أَعْدَاءً مُتَبَاغِضِينَ يَتَرَبَّصُ بَعْضُهُمُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ.

كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً ; يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى عَنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ بِعَهْدٍ وَنِظَامٍ بَشَرِيٍّ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِيَّاتِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ كَانَ مُغْنِيًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٣: ١١٠) وَلَمَّا انْتَثَرَ بِأَيْدِي الْخَلَفِ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَنُكِثَ ذَلِكَ الْعَهْدُ، صِرْنَا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ بِنِظَامٍ خَاصٍّ لِأَجْلِ جَمْعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ: التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي أَيِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ عَمَلٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>