للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ لَيْسَ بِمَعْنَى تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَإِطْرَاحِ الْكِتَابِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُعَبَّرَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ، فَكَأَنَّ السُّنَّةَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لِمَعَانِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) فَإِذَا حَصَلَ بَيَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (٥: ٣٨) بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ ; فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، لَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ دُونَ الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ مَالِكٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ، فَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّنَا عَمِلْنَا بِقَوْلِ الْمُفَسِّرِ الْفُلَانِيِّ، دُونَ أَنْ نَقُولَ عَمِلْنَا بِقَوْلِ اللهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَمَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ قَاضِيَةً عَلَى الْكِتَابِ ; أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ، فَلَا يُوقَفُ مَعَ إِجْمَالِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَقَدْ بَيَّنَتِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَا أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ.

" وَأَمَّا خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ، فَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعَارُضُ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ.

" وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَنِ الْوَاقِعَةِ، فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ ; فَهِيَ تَفْصِيلُ مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ مُشْكَلِهِ، وَبَسْطُ مُخْتَصَرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبُوعٌ لَهَا ; فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: وَإِنَّكَ لِعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٦٨: ٤) وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٦: ٣٨) وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٥: ٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>