وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُنَّ الْعَفِيفَاتُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعَنْ سُفْيَانَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الِاغْتِسَالَ مِنَ الْجَنَابَةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَامِرٌ: إِحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أَلَّا تَزْنِيَ وَأَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُفَسِّرِي السَّلَفِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنَاتِ هُنَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُنَّ الْحَرَائِرُ. وَجَمَاعَةٌ: هُنَّ الْعَفَائِفُ عَنِ الزِّنَا، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، فَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ. وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّوَانِي يُعْرَفُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَمَا هُنَا لَا يُنَافِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ الْعَجْزُ عَنِ الْحَرَائِرِ، كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، فَالْكِتَابِيَّاتُ بِالْأَوْلَى، وَالْحِلُّ هَنَا مُطْلَقٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنَسْخِ مَا اشْتُرِطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ هُنَالِكَ بِمَا هُنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِمَاءُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخِطَابِ الْأَحْرَارُ، وَالْحَرَائِرُ بِالرِّقِّ أَمْرٌ عَارِضٌ ; وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى نِكَاحِهِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْغَالِبُ فِيهِنَّ عَدَمُ الْعِفَّةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا - خِلَافًا لِمَنْ أَدْخَلَ الْإِمَاءَ فِي عُمُومِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْأَمَةَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْعَفِيفَاتِ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ اشْتِرَاطِ اسْتِطَاعَةِ عَدَمِ نِكَاحِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، إِمَّا بِقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الشَّرْطِ نَفْسِهِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْمُقَيِّدِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي حَالِ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ كَمَا هُنَا، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لِضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَالْأَمَةُ لَا تَأْخُذُ مَهْرَهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (٤: ٢٥) فَهُوَ عَيْنُ مَا هُنَا، وَقَدْ رَجَّحْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَهْرَ الْأَمَةِ حَقٌّ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، لَا لِمَوْلَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِمَاءَ لَا يُعْطَيْنَ مُهُورَهُنَّ، وَاللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ الْمُهُورُ؟ غَايَةُ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَثْنُونَ الْمَهْرَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْقِيَ لَهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَأْخُذُهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ عَلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ أَقْوَى مِمَّا ذُكِرَ ; إِذْ يَكُونُ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ عَيْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute