الشَّرْطِ فِي النِّسَاءِ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ هُنَا حَالٌ، وَهِيَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا فَتُفِيدُ الشَّرْطِيَّةَ ; أَيْ هُنَّ حِلٌّ لَكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِعْلًا أَوْ فَرْضًا حَالَ كَوْنِكُمْ مُحْصَنِينَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنِينَ هُنَا الْأَعِفَّاءُ عَنِ الزِّنَا فِعْلًا أَوْ قَصْدًا دُونَ الْأَحْرَارِ ; لِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَيُطْلَقُ " الْمُحْصِنُ " بِكَسْرِ الصَّادِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَبِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَالزَّوَاجُ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُحْصَنًا، وَالْمَرْأَةُ مُحْصَنَةٌ يُعِفُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَيَجْعَلُهُ فِي حِصْنٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ جَهْرًا أَوْ عَلَى الشُّيُوعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُسَافَحَةِ، أَوْ سِرًّا، أَوِ اخْتِصَاصًا بِاتِّخَاذِ خِدْنٍ مِنَ الْأَخْدَانِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّاحِبِ وَالصَّاحِبَةِ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ صَاحِبٌ أَوْ خَلِيلٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا، وَلَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ - يَعْنِي نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَأَحَلَّ اللهُ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى عِلْمٍ. اهـ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ لَا مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَأَنَّ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْرَبَ بَعْضُهُمْ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَوَعَظُوهُمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِيمَانَ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ لِمَا أَحَلَّهُ اللهُ وَحَرَّمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ، وَخَسِرَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ تَفْسِيرَ (يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ) بِالْكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ " وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، بِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا ابْتَعَثَهُمْ بِهِ مِنْ دِينِهِ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَأْبَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَيَمْتَنِعْ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ - فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمَنْ أَبَى التَّصْدِيقَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْإِقْرَارَ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ. اهـ. وَوَجَّهَ الرَّازِيُّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَجَازٌ حَسَّنَهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَبُّ الْإِيمَانِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنِ اسْتَنْكَرُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute