عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كَوْنِ الْإِسْلَامِ يَأْرِزُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْحِجَازِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ قَتَادَةَ " الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ " فِي الْآيَةِ.
إِذَا كَانَ الِازْدِوَاجُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يُنَافِي هَذِهِ السِّيَاسَةَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمِينَ بِالصِّينِيَّاتِ مَدْعَاةً لِدُخُولِهِنَّ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي بِلَادِ الصِّينِ، فَلَا يَكُونُ تَعْلِيلُ الْآيَةِ لِلْحُرْمَةِ صَادِقًا عَلَيْهِنَّ، وَكَيْفَ يُعْطَى الضِّدُّ حُكْمَ الضِّدِّ؟ !
وَقَدْ حَذَّرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ إِذَا خُشِيَ أَنْ تَجْذِبَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى دِينِهَا ; لِعِلْمِهَا وَجَمَالِهَا، وَجَهْلِهِ وَضَعْفِ أَخْلَاقِهِ، كَمَا يَحْصُلُ كَثِيرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي تَزَوُّجِ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْأُورُبِّيَّاتِ، أَوْ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ، فَيُفْتَنُونَ بِهِنَّ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ وَاجِبٌ فِي الْإِسْلَامِ. اهـ.
مُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ اللَّاتِي حَرَّمَ اللهُ نِكَاحَهُنَّ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي رَجَّحَهُ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَالصَّابِئِينَ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَأَمْثَالِهِمْ كَالْيَابَانِيِّينَ - أَهْلُ كُتُبٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى الْآنِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَمِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ بُعِثَ فِيهَا رُسُلٌ، وَأَنَّ كُتُبَهُمْ سَمَاوِيَّةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا التَّحْرِيفُ كَمَا طَرَأَ عَلَى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي هِيَ أَحْدَثُ عَهْدًا فِي التَّارِيخِ، وَأَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الْإِبَاحَةُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّصُّ بِمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (٤: ٢٤) يُفِيدُ حِلَّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ إِلَّا بِنَصٍّ نَاسِخٍ لِلْآيَةِ أَوْ مُخَصِّصٍ لِعُمُومِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ
بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هُنَا أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِمَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَخَصَّصُوا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، مَنَعَ الْجُمْهُورُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِي اللَّقَبِ، وَلَكِنْ جَرَى الْعَمَلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشُّعُورِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ، وَظُهُورِ انْحِطَاطِ جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ عَنْ أَهْلِهِ ; وَلِهَذَا مَالَ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ إِلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حِلِّهِ فِي آخِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ النَّصَّ بِأَنَّ مَعْنَى أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَمِلُوا بِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَانُوا بِهِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لَا يَصِحُّ لُغَةً، فَإِنَّ مَعْنَى أُوتُوهُ مِنْ قَبِلْنَا: أُعْطُوهُ ; أَيْ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَكَانٍ وَرَدَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا (٦: ١٥٦) وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ.
وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَمَسَ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ، فَوَجَدُوا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَنَعَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، مُتَأَوِّلًا لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute