مِنَ الْمُشْرِكَاتِ، وَأَنَّ الْآيَةَ عَامٌّ ظَاهِرُهَا خَاصٌّ بَاطِنُهَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُ دَاخِلَاتٍ فِيهَا " إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي بَيَانِ حِلِّ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ.
هَذَا مَا يَظْهَرُ بِالْبَحْثِ فِي الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى قَوْلٍ صَرِيحٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّ التَّزَوُّجِ بِمَا عَدَا الْكِتَابِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِحِلِّ الْمَجُوسِيَّةِ الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ صَاحِبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي تَفَقَّهَ بِهِ حَتَّى صَارَ مُجْتَهِدًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَفَرُّدَهُ لَا يُعَدُّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ.
وَلَا يَأْتِي فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ النِّكَاحَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْحِلِّ، فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُ مَا وُضِعَ لَهُ بِالنَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ، كَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ وَضْعَهُ لِلْمِلْكِ لَا لِلْحِلِّ بِدَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ غَيْرَ مُقْتَضٍ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ: إِنَّ نِكَاحَ الصِّينِيَّةِ يَقَعُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا.
وَأَمَّا الْبَحْثُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي آيَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّنَاكُحِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ (٢: ٢٢١) وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، فَيُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ (مِنْ ص ٢٨٠ - ٢٨٤ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ شُرِعَتْ مُوَادَّتُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِمُعَاشَرَتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنَّا بِالتَّخَلُّقِ وَالْعَمَلِ، يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ دِينَنَا هُوَ عَيْنُ دِينِهِمْ مَعَ مَزِيدِ بَيَانٍ وَإِصْلَاحٍ يَقْتَضِيهِ تَرَقِّي الْبَشَرِ، وَإِزَالَةِ بِدَعٍ وَأَوْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الدِّينِ، وَمَا هِيَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا صِلَةَ بَيْنَ دِينِنَا وَدِينِهِمْ قَطُّ ; وَلِذَلِكَ دَخَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْإِسْلَامِ مُخْتَارِينَ بَعْدَمَا انْتَشَرَ بَيْنَهُمْ، وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَوْ قُبِلَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا قُبِلَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَمَا قَامَتْ لِهَذَا الدِّينِ قَائِمَةٌ، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ.
ثُمَّ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً خَاصَّةً فِي الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ، وَهِيَ: أَنْ تَكُونَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
حَرَمَ الْإِسْلَامِ الْمَحْمِيَّ، وَقَلْبَهُ الَّذِي تَتَدَفَّقُ مِنْهُ مَادَّةُ الْحَيَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، وَمَوْئِلَهُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجِزْيَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُشْرِكٌ، بَلْ أَوْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْفَتْوَى الرَّابِعَةِ الْمَنْشُورَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي (ص ٩٧) مِنَ الْمُجَلَّدِ (الثَّانِي عَشَرَ) وَتَدُلُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute