للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْكُلُهُ أَوْ يَشْرَبُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ كُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَهَا، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ اسْتَبَاحَهُ النَّصَارَى بِإِبَاحَةِ مُقَدَّسِهِمْ بُولِسْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَكُلُّ مَا أَكَلْنَاهُ مِمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ نَكُونُ مُوَافِقِينَ فِيهِ لِقَوْلِ بَعْضِ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ شَدَّدَ بَعْضُهُمْ وَخَفَّفَ بَعْضٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَشَدُّ الْفُقَهَاءِ تَشْدِيدًا فِي ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، الشَّافِعِيَّةُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ رَأَى أَنَّ أَظْهَرَهَا قَوْلُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَلَمْ يُخَصِّصُوهُ بِذَبَائِحِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَخْصِيصِهِ بِحُبُوبِهِمْ ; كَالشِّيعَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفْتِي مِصْرَ فِي الْفَتْوَى التِّرِنْسِفَالِيَّةِ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي غَيْرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، إِلَّا الثِّقَةَ بِأَنْ يَكُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ غَيْرَ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ نَسَخَتْ شَرِيعَتُنَا كُتُبَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرَهُ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (٧: ١٥٧) وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُمْ مُوَافِقًا لِشَرِيعَتِنَا سَوَاءٌ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ غَيْرَ مُخَاطَبِينَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا كَانَ لِإِبَاحَةِ طَعَامِهِمْ فَائِدَةٌ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، مَا نَصُّهُ: " وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، مِنْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ شَرْعِهِمْ وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالَ: مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرٌ حَقٌّ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَتَعْمَلُ فِيهِ التَّذْكِيَةُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْحَقُّ أَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ فِي وَقْتِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بَاطِلٌ ; إِذْ كَانَتْ نَاسِخَةً لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ أَلَّا يُرَاعَى اعْتِقَادُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ فِي تَحْلِيلِ الذَّبَائِحِ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا اعْتِقَادَ شَرِيعَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِكَوْنِ اعْتِقَادِ شَرِيعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخًا، وَاعْتِقَادُ شَرِيعَتِنَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ خَصَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَذَبَائِحُهُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ، جَائِزَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا ارْتَفَعَ حُكْمُ آيَةِ التَّحْلِيلِ

جُمْلَةً، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللهٌ أَعْلَمُ. انْتَهَى.

وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمُرَادُهُ بِذَبَائِحِهِمْ مُذَكَّاهُمْ كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّذْكِيَةِ وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِقَصْدِ أَكْلِهِ، وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَلِلَّهِ دَرُّ مَالِكٍ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُخَالِفِيهِمْ دَلِيلًا، وَأَلْيَقُ بِيُسْرِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ عُسْرًا لَا يُسْرًا وَحَرَجًا لَا سِعَةً، وَإِنْ هُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، فَمَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ، وَمَنْ شَدَّدَ عَلَى الْأُمَّةِ حَثَوْنَا التُّرَابَ فِي فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>