للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْ مَانِعِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِهَا قَالَ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْإِطْلَاقُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ ذِكْرُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَقَدْ كَانَ نَزْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَرِجًا وَعَسِرًا، فَفِي مَسْحِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَعَ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَعِلَّتِهِ الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَإِنَّ الْعُضْوَ الْمَسْتُورَ يَبْقَى نَظِيفًا، وَلَا حَرَجَ الْآنَ فِي رَفْعِ الْعَمَائِمِ فِي الْحِجَازِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَبِلَادِ التُّرْكِ عَلَى الرَّأْسِ لِأَجْلِ مَسْحِهِ مِنْ تَحْتِهَا فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّهَا تُوضَعُ عَلَى قَلَانِسَ تَرْفَعُ مَعَهَا بِسُهُولَةٍ، وَلَكِنْ يَعْسُرُ مَسْحُهُ كُلُّهُ بِالْيَدَيْنِ كِلْتَيْهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْهِنْدِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ يَحْتَنِكُونَ بِالْعِمَامَةِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ السَّلَفُ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ عَمَائِمِهِمْ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ

يُظْهِرُوا نَاصِيَتَهُمْ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَيَمْسَحُوا بِهَا، وَيُتَمِّمُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ; لِيَكُونَ وُضُوءُهُمْ صَحِيحًا عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَمَنْ مَسَحَ شَيْئًا أَوْ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَسَحَ ذَلِكَ الشَّيْءَ، أَوْ بِهِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: وَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى صَدْرِي، لَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً، أَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأَصْلَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِدُونِ سَاتِرٍ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فَرْضِيَّتِهِ تَنْظِيفُهُ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ، وَهُوَ الْمُتَيَسِّرُ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " إِذَا مَسَحَ الرَّجُلُ بِأَيِّ رَأْسِهِ شَاءَ، إِنْ كَانَ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَبِأَيِّ شِعْرٍ شَاءَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْضِ أُصْبُعٍ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَمْسَحُ لَهُ - أَجْزَأَهُ ذَلِكَ " انْتَهَى. وَبَيَّنَ فِيهِ أَنْ أَظْهَرَ مَعْنَيَيِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَنَّ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَلَكِنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ; فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَحَدِيثًا مُرْسَلًا فِي مَعْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي، وَقَالَ: " الْجُزْءُ الْمَمْسُوحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهِ ".

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: " يَجْزِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَيَمْسَحُ الْمُقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ وَالْجِبَائِيُّ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " يَجِبُ مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ " وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْدِيدُ عَنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: إِنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ (الْبَاءُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِرُءُوسِكُمْ هَلْ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ ; فَيُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَمْ زَائِدَةٌ ; فَيَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ، أَمْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَاهَا؟ وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَ إِمَامِهِمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْمَسْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَهِيَ تَسْتَوْعِبُ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فِي الْغَالِبِ ; فَوَجَبَ تَعَيُّنُهُ، وَهَذَا أَشَدُّ الْأَقْوَالِ تَكَلُّفًا، وَلَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمَسْحُ بِمَجْمُوعِ الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، رُبُعَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>