للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذِهِ الْأَعْمَالَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ عَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ بِأَنَّهَا قَصَدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، وَاشْتَرَطُوا لِتَحَقُّقِهَا وَصِحَّتِهَا عِدَّةَ شُرُوطٍ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفَعٍ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا، وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ ; لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللهِ، وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ، وَلَهُمْ فِي تَعْرِيفِهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا رَأَيْنَاهُ لَهُمْ فِيهَا ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْمَعْنَى الطَّبْعِيِّ، وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ.

ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ نِيَّتَانِ: نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ - وَسَيَأْتِي مَعْنَاهَا - وَنِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ ; وَهِيَ الْقَصْدُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ فِعْلُ الْمُخْتَارِ الشَّاعِرِ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ وَالذَّاهِلِ الَّذِي تُشْبِهُ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ النَّائِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلنِّيَّةِ ضَرُورِيٌّ فِي تَحَقُّقِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ ; فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ وَافْتِرَاضِهِ، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقَوْلُ بَعْدَهُ شَرْطًا لِيُخْرِجَ بِهِ مَا يَقَعُ لِلْمُحْدِثِ مِنْ غَسْلِ أَطْرَافِهِ لِنَحْوِ الِابْتِرَادِ، وَنَاهِيكَ إِذَا غَسَلَهَا بِغَيْرِ التَّرْتِيبِ الْمَأْثُورِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَهَا ; لِأَنَّ عَمَلَهُ السَّابِقَ لَمْ يَكُنِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنَ النِّيَّةِ بِالْحَدِيثِ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَعْنَى الثَّانِي لِلنِّيَّةِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَهُوَ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، بِاتِّبَاعِ مَا شَرَعَهُ وَالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ، أَوْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ ; أَيْ جَعْلُ الْعِبَادَةِ خَالِصَةً مِنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، لَا غَرَضَ مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّحَقُّقِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. كُلُّ مَنْ يُهَاجِرُ يَقْصِدُ الْهِجْرَةَ قَصْدًا مُقْتَرِنًا بِالْفِعْلِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَضَّأُ يَقْصِدُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ يُصَلِّي يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِأَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَكُلُّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِمَنَاسِكِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَتَلَبَّسُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ يَقْصِدُ بِهَا مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ مِنْهَا ; كَنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ

بِالْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ بِهِجْرَةِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، مِنْ مَكَانٍ لَا حُرِّيَّةَ لَهُ فِي دِينِهِ فِيهِ، إِلَى غَيْرِهِ، وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوُضُوءِ وَحِكْمَتِهِ، الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا، وَالصَّلَاةِ وَحِكْمَتِهَا، وَالْحَجِّ وَحِكْمَتِهِ، فَكَمَا يُهَاجِرُ بَعْضُ النَّاسِ لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ، وَلِأَجْلِ التِّجَارَةِ، أَوِ الزَّوَاجِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فِي الْبَاطِنِ، كَذَلِكَ يُسَافِرُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ ; لِأَجْلِ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَمِنْهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَإِذَا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يُصَلِّي رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي لِمُوَافَقَةِ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ، كَمَا يُوَافِقُهُمْ فِي الزِّيِّ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمُنَاجَاتِهِ وَذِكْرِهِ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ وَنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْوِي النِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ؛ وَهِيَ قَصْدُ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهَا ; إِذْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>