فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ النِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ - الَّتِي هِيَ قَصْدُ الشَّيْءِ عِنْدَ فِعْلِهِ - ضَرُورِيَّةٌ، لَا مَعْنَى لِفَرْضِيَّتِهَا وَعَدِّهَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ النِّيَّةَ الْوَاجِبَةَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، هِيَ النِّيَّةُ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، وَيَنْتَفِي الرِّيَاءُ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْتِيهِ مِنْ صُورَةِ الْعِبَادَةِ لَا يَقْبَلُهُ اللهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ، وَلَا تَتَزَكَّى بِهِ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا الْجِسْمَانِيُّونَ الْجَامِدُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ، لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْقَلْبِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، فَتَرَاهُمْ مِنْ أَشَدِّ خَلْقِ اللهِ تَنَطُّعًا فِي ظَوَاهِرِ الْعِبَادَةِ، وَأَشَدِّهِمُ انْسِلَاخًا مِنْ رُوحِهَا وَسِرِّهَا وَحِكْمَتِهَا، وَجَعَلُوهَا حَرَجًا وَعُسْرًا، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى، يَتَنَطَّعُونَ فِي الطَّهَارَةِ، وَقَدْ عَلَا أَجْسَادَهُمْ وَثِيَابَهُمُ الْوَسَخُ وَالسَّنَاخَةُ، وَيَتَنَطَّعُونَ فِي تَجْوِيدِ الْقِرَاءَةِ وَحَرَكَاتِ الْأَعْضَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَنْتَهُونَ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ جَهِلُوا حَقِيقَةَ النِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الْمَحْضَةِ، وَابْتَدَعُوا كَلِمَاتٍ، يُسَمُّونَهَا النِّيَّةَ اللَّفْظِيَّةَ، لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا عُرِفَتْ فِي سُنَّةٍ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقَدْ غَلَوْا فِي التَّنَطُّعِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يُؤْذُونَ الْمُصَلِّينَ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَسْوِسُونَ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ:
نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ، نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ. . . إِلَخْ! وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُوَسْوِسِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ دَقَّقَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ فِي فَلْسَفَةِ نِيَّتِهِمْ ; فَاشْتَرَطَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمُصَلِّي جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عِنْدَ الْبَدْءِ بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ النُّطْقِ بِـ (هَمْزَةِ) لَفْظِ الْجَلَالَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَ (رَاءِ) لَفْظِ (أَكْبَرِ) السَّاكِنَةِ مِنْ كَلِمَتِي (اللهُ أَكْبَرُ) لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى قَصْدِ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ كُلِّ ذِكْرٍ، تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ، فَإِذًا لَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَتَصَوَّرَ عِنْدَ التَّكْبِيرِ إِلَّا مَعْنَى التَّكْبِيرِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ: وَرَدَ فِي التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى وُجُوبِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: " الظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَهَا يُحْدِثُ مِنْهَا قُوَّةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَدَعَّمَهَا النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبَسْمِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ وَهُوَ مِثْلُهَا ". وَلَمَّا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَمْرًا حَسَنًا فِي نَفْسِهِ، وَمَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ تَسَاهَلَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَلِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَبَعْضُهُمْ بِسُنِّيَّتِهَا، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ، الْمُحَقِّقَ الشَّهِيرَ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) : " وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute