(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ ; أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالتَّصَرُّفِ الِاسْتِقْلَالِيِّ الْكَامِلِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ; أَيْ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَالَمَيْنِ ; الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ.
وَهَذَا الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ مِمَّا تَعْتَرِفُ بِهِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّهُمْ زَعْمُوا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَالْكَمَالِ الْأَعْلَى قَدْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ - الَّذِي نَدِمَ وَتَأَسَّفَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ - أَمْرٌ عَظِيمٌ ; وَهُوَ أَنَّ آدَمَ عَصَاهُ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُ، فَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَخْرَجًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِلَّا أَنْ يَحُلَّ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَيَتَكَوَّنَ جَنِينًا فِيهِ ; فَتَلِدُهُ إِنْسَانًا كَامِلًا وَإِلَهًا كَامِلًا، ثُمَّ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِشَرِّ قِتْلَةٍ، لُعِنَ صَاحِبُهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَهِيَ الصَّلْبُ ; فِدَاءً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَجَمْعًا بَيْنَ عَدْلِهِ بِتَعْذِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ وَحْدَهُ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ، وَرَحْمَةِ الْآخَرِينَ إِنْ آمَنُوا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَهُ بِهِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِدَاءً لَهُمْ؟ وَهَلْ هَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟
وَلَمَّا كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْمَسِيحِ بَشَرًا إِلَهًا، وَإِنْسَانًا رَبًّا، هِيَ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ
السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ عَمِلَ أَعْمَالًا غَرِيبَةً لَا تَصْدُرُ عَنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ، قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: (يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أَيْ لَمَّا كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ تَابِعًا لِمَشِيئَتِهِ، فَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ مَادَّةٍ لَا تُوصَفُ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ كَأُصُولِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا أَبُو الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضهَا مِنْ ذَكَرٍ فَقَطْ، أَوْ أُنْثَى فَقَطْ، وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَهَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا يَدُلُّ شَكْلُ الْخَلْقِ وَلَا سَبَبُهُ وَلَا امْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَالْكَهْرَبَاءِ - عَلَى بَعْضِ أُلُوهِيَّتِهَا أَوْ حُلُولِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ فِيهَا، بَلْ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُمْكِنُ. فَامْتِيَازُ الْأَرْضِ عَلَى عُطَارِدَ أَوْ زُحَلَ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ إِلَهًا لِذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي فَضَلَتْهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، كَذَلِكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِ الْمَسِيحِ وَمَزَايَاهُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا لِمَنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَزَايَا ; لِأَنَّ الْمَزَايَا فِي الْخَلْقِ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهَا الْمَخْلُوقُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، نِسْبَتُهُ إِلَى خَالِقِهِ كَنِسْبَةِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الِامْتِيَازُ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَهُوَ مَعْهُودٌ مِنَ الْبَشَرِ أَيْضًا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَقَدِ ادَّعَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ لِأَصْحَابِهَا الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، وَأَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute