عَلَى أَنَّ كُتُبَهُ هِيَ أَعْلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ عِلْمًا وَحِكْمَةً ; فَهِيَ أَعْلَى مِنْ حِكَمِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْتَقِدُهُ عَامَّتُهُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ كَنِيسَتِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ الْأَذْكِيَاءِ اللُّبْنَانِيِّينَ: إِنَّ الْكَنِيسَةَ لَمْ تَعْتَرِفْ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ ; لِيَكُونَ مُنْتَهَى مُبَالَغَةِ الْمُعْجَبِينَ بِحَكَمِهِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ أَنْ يَرْفَعُوهُ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، فَيَبْقَى دُونَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ كَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْمَسِيحِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذَا هُمُ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ فَضَّلُوا الْمَسِيحَ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَهُوَ عِنْدُهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي أَوَاخِرَ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
(الثَّانِي) : جَعْلُهُمْ مُلُوكًا، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ وَمُلُوكٍ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا ; لِأَنَّهُ قَالَ: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ " كُلٍّ " الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ ; أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ ; فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا "، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: " مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِلَفْظِ " زَوْجَةٍ وَمَسْكَنٍ وَخَادِمٍ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى سَتَأْتِي بِنَصِّهَا، وَقَدْ صَحَّحُوا سَنَدَهَا، وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا: الِاسْتِقْلَالُ الذَّاتِيُّ، وَالتَّمَتُّعُ بِنَحْوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ وَسِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ مَا عَرَفْنَا مِنْ بِلَادِهِمْ، يَقُولُونَ لِمَنْ كَانَ مُهَنَّئًا فِي مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسْكَنِهِ، مَخْدُومًا مَعَ أَهْلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَوْ مَلِكُ زَمَانِهِ ; أَيْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ، وَتَرَى مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا، قَالَ: (١: ٦ وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا آتَاهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute