للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي يَرْتَقُونَ بِهَا فِي مَرَاقِي الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّ مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَجْمُوعِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعِيشَةَ الْمَنْزِلِيَّةَ الرَّاضِيَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِهَذِهِ الْعِيشَةِ الثَّانِيَةِ، عِيشَةِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا نِظَامُ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ لَا تَكُونُ أُمَمًا عَزِيزَةً قَوِيَّةً ; فَهِيَ إِذَا كَانَ لَهَا مُلْكٌ تُضَيِّعُهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ أَهْلًا لِتَأْسِيسِ مُلْكٍ جَدِيدٍ؟ ! فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا، وَلْيَنْظُرُوا أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِيشَةِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا.

(الْأَمْرُ الثَّالِثُ) : إِيتَاؤُهُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ; أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَشُعُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْبَدَةً لِلْمُلُوكِ الْعُتَاةِ الطُّغَاةِ ; كَالْقِبْطِ وَالْبَابِلِيِّينَ، رَوَى الْفِرْيَابِيُّ وَابْنَا جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فِي الْأَخِيرِ أَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَرَوَى هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ الْغَمَامِ الَّذِي ظَلَّلَهُمْ فِي التِّيهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمِ الْحَجَرَ الَّذِي انْبَجَسَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْخَصَائِصِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ.

(يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، لِمَا بَعَثَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ " الْمُقَدَّسَةَ ": بِالْمُبَارَكَةِ،

وَيَصْدُقُ بِالْبَرَكَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: مَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا الشَّامُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلَيْنِ الْقُطْرُ السُّورِيُّ فِي عُرْفِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لِسُورِيَّةَ قَدِيمٌ، وَحَسْبُنَا أَنَّهُ مِنْ عُرْفِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى وَلَا أَحَقَّ وَلَا أَعْدَلَ مِنْ قِسْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ سُورِيَّةَ هِيَ الْقِسْمُ الشَّمَالِيُّ الشَّرْقِيُّ مِنْ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْبَاقِي يُسَمُّونَهُ فِلَسْطِينَ أَوْ بِلَادَ الْمَقْدِسِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا هِيَ " الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ "، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكُوا سُورِيَّةَ، فَسُورِيَّةُ وَفِلَسْطِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُسَمُّونَ الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ أَرْضَ الْمِيعَادِ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ الْحِجَازُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ; لِيُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا مِنْ عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ وَالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ مَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ الَّتِي هِيَ أَرْضُ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>