إِنْ كَانَ عَهْدَ النُّبُوَّةِ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَبَدِيَّةً فِي نَسْلِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ بِالْفِعْلِ مِنْهُمْ مَنْ زُهَاءِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنْ كَانَ عَهْدَ امْتِلَاكِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ أَبَدِيًّا فِيهِمْ ; لِأَنَّهَا نُزِعَتْ مِنْهُمْ قَبْلَ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَخَذَهَا الْعَرَبُ، وَصَارَتْ لَهُمْ بِالِامْتِلَاكِ السِّيَاسِيِّ، ثُمَّ بِالِامْتِلَاكِ الطَّبِيعِيِّ؛ إِذْ غَلَبُوا عَلَى سَائِرِ الْعَنَاصِرِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَأَدْغَمُوهَا فِي عُنْصُرِهِمُ الْمُبَارَكِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ
يُبَارِكَهُ وَيُثَمِّرَهُ، وَيُكَثِّرَهُ جِدًّا جِدًّا، وَيَجْعَلَهُ أُمَّةً كَبِيرَةً (رَاجِعْ ١٧: ١٨ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) .
نَعَمْ إِنَّ الْفَصْلَ الرَّابِعَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ صَرِيحٌ فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَاقْتِسَامِهَا بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا حَقٌّ قَدْ وَقَعَ، فَلَا مِرَاءَ فِيهِ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُمْ حَظٌّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، وَلَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ، بَلْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَوْلَى كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ مَفْعُولًا.
يُوَضِّحُ هَذَا مَا نَقَلَهُ كَاتِبُ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (١: ٦ الرَّبُّ إِلَهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلًا: كَفَاكُمْ قُعُودًا فِي هَذَا الْجَبَلِ ٧ تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا، وَادْخُلُوا جَبَلَ الْأَمُورِيِّينَ، وَكُلَّ مَا يَلِيهُ مِنَ الْعَرَبَةِ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْيَسُوعِيَّةِ الْقَفْرِ) وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّ، وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ ٨٠ انْظُرُوا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الْأَرْضَ، ادْخُلُوا وَتَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لِآبَائِكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ) وَأَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهَذَا الْوَعْدِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا السِّفْرِ، وَهَذَا النَّصُّ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ نَسْلُ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ.
وَأَمَّا ذِكْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هُنَا ; فَلِأَنَّ الرَّبَّ ذَكَّرَهُمَا بِوَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمَا، وَأَكَّدَهُ لَهُمَا وَلِنَسْلِهِمَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّأْيِيدِ (تَك ٢٦ و٢٨) كَمَا سَبَقَ فِي وَعْدٍ لِإِبْرَاهِيمَ، فَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُؤَبَّدُ إِنَّمَا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَصْدُقْ إِلَّا بِمَجْمُوعِ نَسْلِهِ، وَهُمُ الْعَرَبُ وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَ الرَّبِّ لِإِسْحَاقَ مَا وَعَدَ بِهِ أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِعْطَاءِ نَسْلِهِ تِلْكَ الْبِلَادَ مُعَلَّلٌ بِحِفْظِ أَوَامِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَشَرَائِعِهِ (تك ٢٦: ٥ وخر ١٣) وَهُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِيَعْقُوبَ فِي الْمَنَامِ فِي الْفَصْلِ الْـ ٢٨، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ هُنَالِكَ التَّعْدِيلُ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute