النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى
أَيْضًا سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ يُذِلُّهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَدِينَتِهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، وَيُتَبِّرُوا مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْهُمَا تَتْبِيرًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ١٧: ٨) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَدْ عَادُوا، وَعَادَ انْتِقَامُ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ مِنْهُمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرُّومَ قَبْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَدُلُّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ،، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ آيَةُ (عَسَى رَبُّكُمْ) أَرْجَى الْآيَاتِ لَهُمْ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْإِصْلَاحِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ مَا فُقِدَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا وَاتَّحَدُوا بِبَنِي عَمِّهِمُ الْعَرَبِ يَمْلِكُونَ كُلَّ هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِي هَذَا بِعِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ شَدِيدُو التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ فِي جِنْسِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَهَذَا الْعَصْرُ عَصْرُ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّونَ رَابِطَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ لِأَجْلِ شَدِّ عُرْوَةَ الرَّابِطَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ لُغَاتٌ ذَاتُ آثَارٍ يُحْرَصُ عَلَيْهَا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّفُونَ تَدْوِينَ لُغَاتِهِمْ وَتَأْسِيسَهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لُغَاتِ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا غَالِبٌ فِيهِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَالْيَهُودُ يُرِيدُونَ أَنْ يُعِيدُوا مُلْكَهُمْ لِهَذِهِ الْبِلَادِ بِتَكْوِينٍ وَتَأْسِيسٍ جَدِيدٍ، وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَطُرُقِ الْعُمْرَانِ الْحَدِيثَةِ.
فَيَا دَارُهَا بِالْخِيفِ إِنَّ مَزَارَهَا قَرِيبٌ وَلَكِنْ دُونُ ذَلِكَ أَهْوَالُ فَإِنَّ الشُّعُوبَ النَّصْرَانِيَّةَ وَدُوَلَهَا الْقَوِيَّةَ تُعَارِضُهُمْ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَالْعَرَبُ أَصْحَابُ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَا يَتْرُكُونَهَا لَهُمْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْوَسَائِلُ الرَّسْمِيَّةُ وَالْمُكَايَدَةُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُغْنِي وَيُقْنِي هُوَ الِاتِّفَاقُ مَعَ الْعَرَبِ عَلَى الْعُمْرَانِ ; فَإِنَّ الْبِلَادَ تَسَعُ مِنَ السُّكَّانِ أَضْعَافَ مَنْ فِيهَا الْآنَ.
وَيُؤَيِّدُ التَّعْلِيلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَخِيرًا هَذَا النَّهْيُ الَّذِي عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ: لَا تَرْجِعُوا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْهُدَى إِلَى الْوَثَنِيَّةِ أَوِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ; فَيَكُونَ هَذَا الرُّجُوعُ إِلَى
الْوَرَاءِ انْقِلَابَ خُسْرَانٍ تَخْسَرُونَ فِيهِ هَذِهِ النِّعَمَ، وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي سَتُعْطَوْنَهَا جَزَاءً عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا، فَتَعُودُ الدَّوْلَةُ فِيهَا لِأَعْدَائِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ شُكْرَ النِّعَمِ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ مِنْهَا، وَكُفْرَهَا مَدْعَاةُ سَلْبِهَا وَزَوَالِهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الِارْتِدَادِ عَلَى الْأَدْبَارِ النُّكُوصُ عَنْ دُخُولِهَا، وَالْجُبْنُ عَنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ قِتَالَهُمْ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى هَذَا قِيلَ هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute