خُسْرَانُ ثَوَابِ الْجِهَادِ، وَخَيْبَةُ الْأَمَلِ فِي امْتِلَاكِ الْبِلَادِ، وَالَّذِي أَجْزِمُ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ تَحْرِيمُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَحِرْمَانُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِهَا الَّتِي وَرَدَ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَنَّهَا " تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا "، وَعِقَابُهُمْ بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَنْقَرِضُ فِيهَا الْمُرْتَدُّونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْخُسْرَانَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَبَيَّنَهُ اللهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُ اللهِ تَعَالَى كَتَبَهَا لَهُمْ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِشَعْبِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ الَّذِي يُوَجَّهُ إِلَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ مَعْهُودٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَلُغَاتِهِمْ، يُسْنَدُ إِلَى الْحَاضِرِينَ الْمُخَاطَبِينَ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ سَلَفِهِمِ الْغَابِرِينَ، وَيُبَشَّرُونَ أَوْ يُوعَدُونَ بِمَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَلَفِهِمُ الْآتِينَ، كَبِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَى جُمْهُورِ الَّذِينَ خَالَفُوا وَعَصَوْا أَمْرَ مُوسَى بِدُخُولِهَا، وَلَمَّا دَخَلُوهَا بَعْدَ التِّيهِ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِأَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُمْ بَقِيَّةٌ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ كَوْنَهَا كُتِبَتْ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيَانِهِمْ يَصْدُقُ بِهَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَلَكِنَّ الْأُسْلُوبَ الْفَصِيحَ يَأْبَى هَذَا التَّوْجِيهَ اللَّفْظِيَّ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ هُنَا الْأَمْرُ، فَمَعْنَى " كَتَبَ اللهُ لَكُمْ " أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى آبَائِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوَاقِعُ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى كَتَبَ لَكُمْ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ ; أَيْ أَثْبَتَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
(قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) كَانَ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَذَلَّهُمْ وَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُمْ، وَكَانَ بَنُو عَنَاقٍ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَمَامَهُمْ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ
أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانُوا كِبَارَ الْأَجْسَامِ، طِوَالَ الْقَامَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ ".
فَالْجَبَّارُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الطَّوِيلِ الْقَوِيِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْقَتَّالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ، وَالَّذِي يَجْبُرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَالْقَاهِرِ الْمُتَسَلِّطِ، وَالْمَلِكِ الْعَاتِي، وَكُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ ; أَيْ طَوِيلَةٌ، لَا يُنَالُ ثَمَرُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِنْ عَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ فِي أَسَاسِهِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الشَّيْءِ ; كَأَجْبَرَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَلْفَاظِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْأَجْسَامِ وَلِمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا مَا وُضِعَ لِلْمَعَانِي، وَمَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ جَزْمِي بِمَا ذَكَرْتُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُ مِثْلَهُ وَمَا يُؤَيِّدُهُ. ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَرَادَ الطُّولَ وَالْقُوَّةَ وَالْعِظَمَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ مِنَ النَّخِيلِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الَّذِي فَاتَ يَدَ التَّنَاوُلِ، وَيُقَالُ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ. انْتَهَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute