للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقَعْنَ فِيهَا، وَيَجْعَلُ يَحْجِزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

أَفْسَدَ ظُلْمُ الْفَرَاعِنَةِ فِطْرَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا طَابَعَ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَقَدْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُرِ أَحَدًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْعَذَابِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَالْعِزِّ وَالنَّعِيمِ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُمْ

نَصَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ كُلِّفُوا أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَيَتَمَلْمَلُونَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مِصْرَ وَيَحِنُّونَ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، وَلَمَّا غَابَ عَنْهُمْ أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، اتَّخَذُوا لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَعَبَدُوهُ، لِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِكْبَارِ سَادَتِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِعْظَامِ مَعْبُودِهِمُ الْعِجْلِ (أَبِيسَ) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا تُطِيعُهُمْ نُفُوسُهُمُ الْمَهِينَةُ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ وَعْدَهُ تَعَالَى لِأَجْدَادِهِمْ إِنَّمَا يِتِمُّ عَلَى وِفْقِ سُنَّتِهِ فِي طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، إِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي الْوَثَنِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَنَشَأَ بَعْدَهُ جِيلٌ جَدِيدٌ فِي حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَعَدْلِ الشَّرِيعَةِ وَنُورِ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ قَوْمًا بِذُنُوبِهِمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ عَجَائِبَ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا آخَرِينَ، جَعَلَهُمْ هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ بِهِمَمِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُوَافِقَةِ لِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ ; فَهَذَا بَيَانُ حِكْمَةِ عِصْيَانِهِمْ لِمُوسَى بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَحِكْمَةِ حِرْمَانِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْجِيلِ مِنْهُمْ مَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ.

فِعْلَيْنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>