للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْلِيلِ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ

أَجْلَ أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ

الْبَيْتَ، وَهُوَ بِغَيْرِ مِنْ.

وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُرْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي أَحَلَّهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَبْنَا وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى (كَتَبْنَا) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي تَشْنِيعِ الْقَتْلِ كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ عُرْضَةٌ لِلْبَغْيِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا لَمْ يَرْدَعْهُمُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، أَوْ خَوْفُ الْعِقَابِ الْعَتِيدِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْحَسَنُ قَوْلَهُ: إِنَّ وَلَدَيْ آدَمَ هَذَيْنِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِمَا كَانَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْبَغْيِ، وَمِنْهُ قَتْلُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَأَمَّا هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْقِصَاصِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٥: ٤٥) أَيْ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا جَزَاءً وِفَاقًا (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ)

أَوْ غَيْرِ سَبَبِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ بِسَلْبِ الْأَمْنِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْعِصَابَاتُ الْمُسَلَّحَةُ لِقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، أَوْ إِفْسَادِ الْأَمْرِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ الْمُقِيمِ لِحُدُودِ اللهِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) (٥: ٣٣) الْآيَةَ.

(فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُمَثِّلُ النَّوْعَ فِي جُمْلَتِهِ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْتَحِلُّ دَمَ كُلِّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، فَتَكُونُ نَفْسُهُ ضَارِبَةً بِالْبَغْيِ لَا وَازِعَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وَلَا مِنَ الدِّينِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) أَيْ وَمَنْ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ كَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِنْقَاذِ الْوَاحِدَةِ - وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَمَعْرِفَةُ قِيمَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَاحْتِرَامُهَا، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ فِي حُقُوقِهَا - تَنْدَغِمُ فِيهِ جَمِيعُ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُنْقِذَهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ هَلَكَةٍ يَرَاهُمْ مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَنِي فِي ذَلِكَ وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَصِّرُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانُوا عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ بِالْقَتْلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَوْ كَانُوا مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً احْتِرَامًا لَهَا وَقِيَامًا بِحُقُوقِهَا لَامْتَنَعَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَاشَ النَّاسُ مُتَعَاوِنِينَ، بَلْ إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ، فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا مَا يَجِبُ مِنْ وَحْدَةِ الْبَشَرِ وَحِرْصِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى حَيَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>