الْجَمِيعِ، وَاتِّقَائِهِ ضَرَرَ كُلِّ فَرْدٍ ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْفَرْدِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْجَمِيعِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُضْوٌ مِنَ النَّوْعِ، وَمَا قَرَّرَ لَهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسَاوَاةِ فِي الشَّرْعِ، قِيَامٌ بِحَقِّ الْجَمِيعِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِي مَنْ جَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الْآيَةِ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْرِيجِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَهْدِينَا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَوُجُوبِ تَكَافُلِهَا، بِمِثْلِ إِسْنَادِ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهَا إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَوَضْعِ اسْمِ الْأُمَّةِ أَوْ ضَمِيرِهَا فِي مَقَامِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْخِطَابِ لِبَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤: ٢٩) فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ - بَعْدَ إِيرَادِ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا - مَا نَصُّهُ: بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ فَقَطْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ الْقِصَاصُ، فَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً كَمَنْ قَتَلَ كُلَّ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِالْوَاحِدَةِ وَبِالْكَثِيرِ؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ الْقَتْلِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْإِحْيَاءِ ". وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِيهِ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَاتِلِ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَقِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْقَتْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ إِثْمَ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِثْمِ قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَجَزَاؤُهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ بُيِّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (ص٣٧ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَإِحْيَاؤُهَا نَصْرُهُ وَشَدُّ عَضُدِهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَتْلَ الْمُصْلِحِ أَوْ إِنْقَاذَهُ وَنَصْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَأْبَاهُ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَ نَفْسٍ بِدُونِ حَقٍّ حَيَى النَّاسُ جَمِيعًا مِنْهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا كَانَ قَتْلُهَا كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَنْقَذَهَا مِنَ الْقَتْلِ كَانَ عِنْدَ الْمُنْقَذِ كَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاخْتَارَ مِنْهَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ فِي الْقَتْلِ هُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ سَلَامَةُ النَّاسِ مِمَّنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا أَوْضَحُ وَأَجْمَعُ لِلْمَعَانِي.
وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الْعَالِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ ; إِذْ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ كَتَبُوا مَا بَقِيَ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَأَمَّا قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فَهِيَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَدَّمَ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ قُرْبَانًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ دُونَ أَخِيهِ اغْتَاظَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute